لجريدة عمان:
2025-10-29@17:15:48 GMT

نوربرت إلياس.. العصيّ على التّصنيف

تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT

نوربرت إلياس.. العصيّ على التّصنيف

ناتالي أينيش/ ترجمة - حافظ إدوخراز

لا بدّ من القول بدايةً: إنه من الصّعب للغاية تحديد المكانة التي يشغلها عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس (Norbert Elias) على مستوى التاريخ الفكري بدقّة. ويرجع ذلك أولًا إلى عمره المديد (وُلد في ألمانيا سنة 1897 وتُوفيّ في هولندا عام 1990) الذي مكّنه من عبور مراحل متعدّدة من الفكر الحديث.

بعد دراسة الطبّ والفلسفة، كوّن إلياس نفسه في حقل علم الاجتماع الألماني المتأثّر كثيرًا بأفكار ماكس فيبر، وبعد فراره من ألمانيا النازية لم يتمكّن من تدريس علم الاجتماع في إنجلترا، إلا بعد أن بلغ من عمره قرابة الستّين عامًا. ورغم أنّه كان يكتب أساسًا باللغة الألمانية، إلا أنه قد اضطرّ إلى تعلّم الكتابة بالإنجليزية أيضًا.

وفضلًا عن ذلك، فإنّ أعماله تستعصي على التصنيف بسهولة، سواء بسبب فرادة موضوعاتها وتنوّعها الكبير (من آداب الأكل إلى كرة القدم، ومن العمارة إلى التاريخ الاقتصادي، ومن المؤسّسات السياسية إلى المهن البحرية، ومن العلاقات بين الجنسين إلى الموسيقى، ومن العواطف إلى الموت)، أو بسبب تعدّد الحقول المعرفية التي كتب فيها، إذ تتجاوز حدود علم الاجتماع لتشمل التاريخ وعلم النفس والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية.

وإن كان إلياس قد تخصّص في علم الاجتماع بشكلٍ أساسي، إلا أن الأمر كان يتعلق بعلم اجتماعٍ متجذّرٍ في التقاليد العلمية للقرن التاسع عشر، أي قبل ظهور الأساليب الإحصائية واستطلاعات الرأي، وقبل أجهزة التسجيل التي مكّنت لاحقًا من تطوير المناهج النّوعية القائمة على المقابلات. ومثلما فعل ماكس فيبر قبل جيلٍ منه، فقد اعتمد إلياس بالأساس على البحث في المكتبات، غير أنّه قد تميّز بحرّية فكرية لافتة مكّنته من الانفتاح على موادٍّ كانت تعدّ تافهة في نظر التقليد الأكاديمي مثل المؤلفات التي كُتبت حول فن العيش وآداب السلوك.

غير أن إلياس، وعلى خلاف توجّهٍ لا يزال حاضرًا بقوّة في علم الاجتماع بألمانيا، لم يسعَ يومًا إلى تشييد بنًى نظرية كبرى تزعم تفسير «المجتمع» بوجهٍ عام. بل ظلّ ملتزمًا، حتى في استنتاجاته الأشدّ عموميةً وتجريدًا، بموضوعاتٍ محدّدة في الزمان والمكان مثل المجتمع الفرنسي بين أواخر العصور الوسطى والثورة الفرنسية، بمعنى أنه كان يتحدث عن هذا المجتمع بعينه وليس عن «المجتمع» بإطلاقه. يُعدّ الجمع بين هذين المستويين من التفكير، التجريبي والنظري، من أبرز المزايا التي نجدها في فكر إلياس.

موضوعات تشمل جميع حقول العلوم الاجتماعية

وبالموازاة مع علم الاجتماع، استدعى إلياس علم التاريخ أيضًا رافضًا بذلك ما سمّاه في عنوان أحد مقالاته بـ«انكفاء علماء الاجتماع على الحاضر»، ولم يتردّد في الغوص بعيدًا في ماضي المجتمع الغربي. وقد أبعده ذلك أحيانًا عن زملائه من علماء الاجتماع الذين لم يعتادوا هذه التوغّلات الجرّيئة في «الزمن الممتدّ»، في حين أكسبه ذلك اهتمام المؤرخين، لا سيّما ورثة مدرسة الحوليات الذين لا يحصرون حدود تخصّصهم في تأريخ الأحداث. غير أنّ هذا كان سببًا آخر في سوء الفهم الحاصل على مستوى تلقّي أعماله، التي شُبّهت أحيانًا بالتاريخ «المسلّي»، أي الصحفيّ.

كما أنّ علم السياسة كان معنيًّا هو الآخر ببعضٍ من جوانب أعماله، ولا سيما ما يتعلّق منها بالتغيّرات الحاصلة في بنية السّلط ودور الدولة إزاء مختلف أشكال العنف. وقد وجد علماء الأنثروبولوجيا بدورهم في أعماله موضوعات تهمّ تخصّصهم، مثل تطوّر المجتمعات والتعميم الممكن للسّمات المميّزة للمجتمع الغربي.

واستلهم علماء النفس والمحلّلون النفسيون من نظريته حول الضبط الذّاتي المتزايد للانفعالات، وآثار ذلك على كلٍّ من العادات الاجتماعية والحياة النفسية للأفراد. وأمّا الفلاسفة، فيمكنهم أن يتعرّفوا في فكره على بعض القضايا الفلسفية الكبرى، باعتباره فكرا يهمّ السيرورات لا الحالات المستقرّة، ويعنى بالتحوّلات لا بالتصنيفات، ويركّز على العلاقات لا الأوضاع. وهو ما أتاح لإلياس أن يقدّم نظرةً متجدّدة كليًا حول قضايا استأثرت باهتمامٍ بالغ عند الفلاسفة مثل دور الرموز في عملية التّأنسُن (نظرية الرموز).

كرّس إلياس أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه لموضوعٍ قد يبدو تافهًا للوهلة الأولى، ويتعلق الأمر بآداب البلاط في فرنسا في ظل النظام القديم. وقد تناول بالتحليل في كتابه «مجتمع البلاط» (الصادر عام 1969)، نتائج التحوّل السياسي والعسكري والاقتصادي من مجتمعٍ إقطاعي إلى ملكية مطلقة، حيث كان احتكار الدولة للجباية ولاستخدام السلاح وراء ظهور مجتمع البلاط الذي رسّخ استقلالية الملك عن النبلاء، ورسّخ في الوقت نفسه تبعية هؤلاء له. إذ أن الملك المطلق الباسط لحكمه على البلاط، يختلف عن الزعيم ذو الكاريزمية، فهو يعتمد على التوتّرات بين المحيطين به للحفاظ على توازنٍ دقيق تلعب فيه آداب البلاط دورًا كبيرًا. غير أنّ الملك نفسه يظل أسير هذه القواعد، فالتقييد الذاتي وعلاقات الاعتماد المتبادل تشملانه هو أيضًا.

وفي كتابه الموسوم «تحضّر آداب السلوك» سيتناول إلياس مجددًا كموضوعٍ للبحث السوسيولوجي مسألةً قد تبدو تافهة كذلك للوهلة الأولى، ولا يتعلق الأمر بآداب البلاط هذه المرة بل بأشكال تدبير الوظائف الجسدية كالجلوس إلى المائدة وتنظيف الأنف والبصق والتبوّل والتغوّط والاغتسال والمعاشرة الجنسية. وقد وفّرت له الكتب التي عنيت بمسائل تهذيب السلوك في عصر النهضة مادّة غنية، لا تعكس فقط حالة هذه «الآداب» في لحظة تاريخية معينة، بل تكشف أيضًا عن مسار تطورها. وقد تسارع هذا التطور خلال القرن السابع عشر في اتجاه كبح كل ما من شأنه أن يذكّر الإنسان بـ«طبيعته الحيوانية»، فالعري أصبح أقل، وروائح الجسد صار يُتستّر عليها، والوظائف الطبيعية باتت تُمارَس في أماكن محدّدة ومعزولة، ولم يعد البصق على الأرض مقبولًا، كما لم يعد تنظيف الأنف باستعمال الكمّ أمرا جائزا وإنما باستعمال منديل، ولم تعد الناس تأكل بالأصابع بل باستخدام الشوكة.

عملية التحضّر

كيف يمكن تفسير مثل هذا التحوّل؟ يستدعي إلياس هنا دينامية العلاقات الاجتماعية بين الفئات الدنيا والعليا في المجتمع. فمن الناحية التاريخية، كانت أرستقراطية البلاط هي السبّاقة إلى تبنّي السّلوكيات الجديدة الأكثر «تحضّرًا»، ثم انتقلت تدريجيًا تلك السلوكيات إلى الطبقات الاجتماعية الأخرى، وفي مقدّمتها الفئات البرجوازية التي دُعيت إلى مجالسة الأرستقراطية بل وحتى الدخول في منافسة معها. وهذا ما يُعرف بالنّزعة الانتقالية العمودية من الأعلى إلى الأسفل. أمّا ازدياد الحساسية داخل الطبقة الأرستقراطية تُجاه ما هو مقبول أو مرفوض من سلوكات، فيُعزى إلى ظروف تاريخية محدّدة أبرزها قيام سلطة ملكية قويّة في العصور الوسطى، ونهاية الفروسية الفوضوية والعنيفة، وتعوّد الأرستقراطية على حياة البلاط.

وفي كتابه الموسوم «دينامية الغرب»، سوف يقوم إلياس، انطلاقًا من مفهوم «التكوّن الاجتماعي للدولة» كما يسمّيه، بإعادة بناء تاريخ «عملية التحضّر» في أوروبا منذ سيادة الإقطاع في القرن الحادي عشر مرورًا بممالك عصر النهضة ووصولًا إلى قرن الأنوار، حيث بلغت هذه العملية ذروتها. لقد تشكّلت الدولة تدريجيًا عبر فرض احتكارين اثنين انفرد بهما الملك، ويتمثل الأول في احتكار الجباية الذي حوّل الروابط بين الملك والإقطاعيين إلى علاقات مالية، ويتعلق الثاني باحتكار العنف المشروع الذي جعل القوّة العسكريّة وشرط السلم الأهلي حصرًا في يد الملك. وبهذا التركيز على احتكار الدولة للعنف، تجاوز إلياس النظرية الماركسيّة التي جعلت من المجال الاقتصادي العامل الأوحد أو الأبرز في التاريخ، ليقترب بذلك من النظرية الفيبرية (نسبةً إلى عالم الاجتماع ماكس فيبر). وقد أضاف إلى هذه النظرية تأملًا أصيلًا حول العلاقة بالانفعالات وضبط السلوكيات والعواطف أيضًا.

إن الظواهر من قبيل تمدّن طبقة النبلاء ودخولها في علاقات مالية وتجارية إضافة إلى كونها قد أصبحت جزءًا من بلاط الملك كانت السبب وراء تطوّر السلوكيات الحاصل داخل مجتمع البلاط، والتي انتقلت لاحقًا إلى باقي المجتمع. كما كان لها تأثيرات على بنية الوعي البشري، ويظهر ذلك من خلال دراسة مسألة الانفعالات على مدى الزمن الممتد. إن هذا التحليل الذي بلوره إلياس قبل أن يُتمّ الأربعين من عمره، يتضمّن مجمل التطوّر اللاحق لأبحاثه، ولا سيما ثلاث إشكاليات تُعَدّ نموذجية في فكره، وهي: أولًا، مسألة التحكّم الذاتي بالعواطف؛ ثانيًا، الانتقال من العنف إلى ضبط التوترات وتأثير ذلك على تقليص الفوارق الهرمية؛ ثالثًا، الانتقال من التعبير الخارجي عن الانفعالات إلى كبحها وسجنها داخل النفس.

أما في كتابه المعنون بـ«الاشتباك والتّماسُف: إسهامات في سوسيولوجيا المعرفة»، فقد بحث إلياس في الطرق التي من خلالها يتيح التحكّم الذّاتي في العواطف للفرد السيطرة (النّسبية) على العالم الخارجي، وكيف أن ازدياد هذا التحكّم من طرف الفرد يؤدي إلى تخفيف حدّة الشّحنة العاطفية عبر أخذه مسافة منها. وهذا ما يسمّيه إلياس بـ«العلاقة المزدوجة النفسية-الفيزيولوجية والنفسية-الاجتماعية»، وهي ظاهرة تُلاحظ لا على مستوى التجربة الفردية فحسب، بل كذلك على مستوى تطوّر المجتمعات. كما يُسهم هذا النموذج في إضاءة تاريخ العلوم، إذ يفسّر مثلا الفروق بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية، فالأولى تطوّرت بفضل تزايد قدرتها على أخذ مسافةٍ من موضوعاتها، في حين أن الثانية لم تبلغ بعدُ هذا المستوى.

نشأة الرياضة الحديثة

لقد وجد إلياس في الرياضة مجالًا مميّزا لتطبيق تأملاته حول مسألة الانتقال من العنف إلى التحكم في التوتّرات، والتي صاغها رفقة زميله عالم الاجتماع البريطاني إريك دانينج (Eric Dunning) في كتاب «الرياضة والحضارة: العنف المضبوط». فقد ركّزا على السعي نحو التوتر بوصفه عنصرًا أساسيا في المتعة التي يثيرها المشهد الرياضي. ثم قام الباحثان، من منظور تاريخي طويل الأمد عزيزٍ على قلب إلياس، بوصف المراحل المختلفة التي مرّت بها الممارسة الرياضية من الأشكال القديمة إلى تشكّل الرياضة الحديثة، عبر عملية «ترييض» (sportization) تضمّنت عدة سمات: إلغاء الفوارق الاجتماعية لصالح مبدأ تكافؤ الفرص على أساس الكفاءات الرياضية وحدها، وإقامة فضاءات مخصصة للرياضة (ملاعب، قاعات رياضية، مضامير دراجات...) وابتكار إيقاع زمني خاص بالمنافسات الرياضية (مباريات وبطولات وكؤوس عالمية...)، وتوحيد قواعد اللعب وجمعها في منظومة واحدة من القوانين، وأخيرا تقليص العنف وفرض أخلاقيات، بحيث تخضع الرغبة في الانتصار لاحترام القواعد ومتعة اللعب.

لقد برزت الرياضة إذن في أعمال إلياس بوصفها المجال الأمثل للتطور «المُمدِّن» الذي حوّل القيود الخارجية الرامية إلى كبح العنف إلى ضبط ذاتي، ينقل إلى دواخل الفرد عملية ضبط التوترات وكبح الانفعالات والدوافع العدوانية، مساهمًا بذلك في تلطيف العالم الاجتماعي وتهذيبه.

وحدة عبقري

تعدّ الرياضة مثالًا يوضح على نحوٍ جيّد نمط تفكير إلياس، الذي لا يقوم على مقابلة فئاتٍ متعارضة على نحوٍ حصريّ، بل على ثنائياتٍ قطبية: ثنائية المودّة الناشئة عن التّماهي والعداء تجاه الخصوم، وثنائية مرونةِ القواعد وثباتها، وثنائية الضوابط الخارجية والضبط الذّاتي الذي يمارسه المرء على نفسه. ومن ثَمّ، فإنه لا يعود بالإمكان التفكير بمنطق التناقضات (بين العنف والرقابة، والارتباطِ والعداء، والضّبط والحرية)، بل يحلّ مكانه منطق آخر يتمثل في السيرورات التطوّرية التي تعرف لحظاتٍ من التسارع والتباطؤ وفترات من التقدّم والتراجع، بل وحتى تراكب حالات مختلفة.

يمكن قراءة الانتقال من التّعبير الخارجي عن الانفعالات إلى كبحها ولجمها داخل النفس أيضًا في علاقة الإنسان بالموت، وهي المسألة التي تناولها إلياس في كتاب صغير أواخر حياته بعنوان: «وحدة المحتضرين». فالعلاقة مع الموت، شأنها في ذلك شأن العلاقة مع الجسد، تخضع لعملية من الاستبطان من خلال التكتّم عليه وعدم الحديث عنه وكبت الانفعالات المرتبطة به. غير أنّ هذه الملاحظة ستظهر لأوّل مرّة في أعماله مكسوّةً بشيء من القلق حيال ظاهرةٍ أدرك إلياس آثارها السلبيّة، إذ إنّ مثل هذا «الاندفاع التحضّري» لا ينطوي على ضبط الانفعالات فحسب بل كذلك على كبتها، مع كل ما يترتّب عن ذلك من نتائج وعلى رأسها الوحدة.

يتكرّر موضوع الوحدة هذا في تحليله لحالة المؤلف الموسيقي موزارت، والتي ستكون موضوع آخر أعماله غير المكتملة: «موزارت: سوسيولوجيا عبقري». ففي هذا الكتاب يستكشف إلياس سوسيولوجيا الانفعالات في بُعدها الأنطوجيني، أي على مستوى الفرد – والفرد هنا حالة خاصة لأن الأمر يتعلق بما نسمّيه «عبقريًّا». يبيّن إلياس كيف عانى موزارت من تباينٍ مزدوج، فمن جهة، ثمّة اختلاف بين عادات طبقته البرجوازية وحياة البلاط، ومن جهة أخرى، بين أميرٍ مطلق السلطان لكنه عاجز عن تقدير فنّ خادمه حقّ قدره، وخادمٍ موهوبٍ بشكل استثنائي لكنه في مرتبة تابع.

وفي مثل هذا الفضاء، يتعذّر على الفنان أن يفرض إبداعاته، إذ لم يكن قد ترسّخ بعدُ نموذج الفنان المبدع الأصيل والحرّ في تحديد معايير تميّزه. ومن هنا ينشأ صراع لا يقتصر فقط على التناقض بين العادات (البرجوازية والأرستقراطية) أو على مستوى الاستحقاق (السياسي والفني)، بل يمتدّ إلى الذّوق والممارسة الموسيقية نفسيهما، بحيث يكون سببًا في توتّرٍ دائم بين العظمة الجوانية لفنّان فائق الموهبة، وصغره الخارجي داخل عالمٍ لا يعترف بتفوّق القيم الفنية ولا بضرورة استقلال المبدعين ماديًّا وجماليًّا.

وهكذا أظهر إلياس أنه قادر على الاشتغال على مستوياتٍ مختلفة جدًا، من المستوى الجزئي (micro) إلى المستوى الكلّي (macro) – وهذا أيضًا دليلٌ على حداثته الفكرية. ونقف على ذلك في بحث مونوغرافي عمل عليه رفقة عالم الاجتماع البريطاني جون سكوتسون (John Scotson) ونُشر تحت عنوان «منطق الإقصاء». ويقدّم فيه الباحثان دراسة تفصيلية على مستوى العالم العمّالي في بلدةٍ إنجليزية صغيرة، حول آليات الفصل الاجتماعي والإقصاء وعدم المساواة، والتي تعدّ ظاهرة العنصرية شكلها الأكثر مرئيةً. لقد بيّن إلياس أن الميز القائم على الفروقات في الموارد الاقتصادية ليس سوى حالة خاصة من عمليات الوصم الاجتماعي هذه، والتي قد تتّخذ في أوساط العمّال من الأقدمية ذريعةً لها. وهذا يقوّض الفكرة الماركسية القائلة بسببيةٍ تقوم على أولوية العامل الاقتصادي، فالصراع الطبقي في هذا السياق ليس مفهومًا ملائما لفهم علاقة الهيمنة هذه بين المجموعات.

لا وجود لـ«أنا» من دون «أنت»

بدلًا من التركيز على مسألة الهيمنة، قام إلياس في مجمل أعماله بالتأكيد على الاعتماد المتبادل بين البشر، فيقول في كتابه «ما علم الاجتماع؟»: «لا وجود لـ«أنا» من دون «أنت»، ولا لـ«هو» أو «هي» من دون «نحن» و«أنتم» و«هم» و«هنّ»». وسوف يعود إلى هذا الموضوع ليتناوله بالتفصيل في بيانه الإبستيمولوجي الكبير «مجتمع الأفراد»، وهو بيان غير فرداني كما قد يُعتقد أحيانًا، لأنه سيحطّم فيه فكرة التعارض بين «الفرد» و«المجتمع». فهذان المفهومان لا يحيلان في نظره إلى كيانين أو جوهرين مستقلّين، بل إلى مستويين مختلفين من التجربة الإنسانية. تلك كانت ثورته «الكوبرنيكية» (نسبةً إلى عالم الفلك كوبرنيكوس)، أي التفكير في التكوين المتبادل لما نسمّيه عادة بـ«الفرد» و«المجتمع»، باعتباره عمليةً علائقية (أي غير قائمة على جوهر) وتطوّرية (أي سياقية وتاريخية) في الآن نفسه.

يفضّل إلياس مفهوم «التّشكيل» (configuration) على مفهوم «المجتمع»، ويقصد به نسق التفاعلات كما يُرى من منظور الفرد، أو بعبارة أخرى وضعًا ذا بُعدٍ زماني ومكاني متغيّر، بحيث إن ما يحدث فيه يؤثّر في جميع الأفراد المنخرطين فيه، وهم بدورهم يساهمون من خلال أفعالهم في تعديل هذا الوضع نفسه.

عالم اجتماع غير تقليدي

تكمن الجرأة في فكر إلياس كذلك في تطلّعه إلى بلورة مقاربة للتجربة الإنسانية تجمع بين بُعدين يبدوان في الظاهر كنقيضين، وهما التحليل النفسي والأنثروبولوجيا، أي دواخل النفس الفردية والعالم الخارجي المتمثل في المعايير الجماعية، مع النظر إليهما من منظورٍ تاريخي وديناميكي في الوقت نفسه. ومن ثَم، فإن الأمر لا يعود متعلقًا بفئات متحرّرة من الزمن تستند إلى طبيعةٍ ثابتة، بل بسيروراتٍ تطورية تنشأ عن علاقات القوة بين مجموعات تملك مواردَ وطموحاتٍ متباينة.

لقد وجّه إلياس بالتالي نقدًا مزدوجا لأهم نَسقين نظريّين في عصره، وهما تاريخ الأفكار من جهة، الذي يفتقر إلى مراعاة الظواهر اللاواعية التي سلّط عليها التحليل النفسي الفرويدي الضوء، والتحليل النفسي من جهة أخرى، الذي ظلّ أسيرًا لتاريخية البنى النفسية ويميل بالتالي إلى تحويلها إلى عمليات بيولوجية أو كيانات ميتافيزيقية. لقد سعى إذن إلى تطوير «علم نفس تاريخي» يجمع بين بُعدي اللاوعي والتاريخ.

وأخيرًا، ينطلق فكر إلياس من حرصٍ دائم على التحليل والتفسير والفهم بدلَ إصدار الأحكام. إن رفضه للمعيارية في الخطاب السوسيولوجي ورغبته في إنتاج معرفة موضوعية ودائمة لا مجرد رأي ظرفي، يجعلان منه اليوم عالم اجتماع غير تقليدي يسير عكس الموضة الفكرية التي تَعدّ النّقد أساسًا وغايةً للباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن المرجّح أن هذا هو ما سيضمن طول أمد تأثير أعماله.

ناتالي أينيش عالمة اجتماع ومديرة أبحاث بالمركز القومي للبحث العلمي بفرنسا

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التحلیل النفسی عالم الاجتماع علم الاجتماع الانتقال من على مستوى فی کتابه إلیاس فی ذلک على ن إلیاس على الت غیر أن من الت من جهة

إقرأ أيضاً:

صدق أو لا تصدق.. رونالدو خسر آخر 20 بطولة رسمية مع الفرق التي لعب لها

كشف الناقد الرياضي خالد طلعت مفاجأة بشأن اللاعب كريستيانو رونالدو.

وكتب خالد طلعت عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “صدق أو لا تصدق  .. رونالدو خسر آخر 20 بطولة رسمية مع الفرق التي لعب لها”.

وتابع:"مع النصر خاض 14 بطولة رسمية ، خسرها كلها ، ولم يحقق الفريق أي بطولة رسمية،خسر الدوري السعودي 3 مرات،خسر دوري أبطال أسيا 3 مرات،خسر كأس السوبر السعودي 4 مرات، خسر كأس الملك 4 مرات، وقبلها مع مانشيستر يونايتد خسر 6 بطولات رسمية ولم يحقق أي بطولة، الدوري الانجليزي مرتين،دوري أبطال أوروبا،الدوري الأوروبي،كأس انجلترا و كأس رابطة المحترفين".

شوبير ينفي منح لاعبي الأهلي مكافآت قبل مواجهة بتروجيتلقطات من عودة إمام عاشور لمران الأهلي اليومبعد استقرار حالته.. الأهلي يكشف تفاصيل برنامج إمام عاشور التأهيليأول تعليق من رونالدو بعد وداع النصر كأس خادم الحرمين:

وكان قد علق النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو, لاعب النصر السعودي، على وداع فريقه كأس خادم الحرمين الشريفين.


وخسر النصر أمام الاتحاد بهدفين مقابل هدف، أمس الثلاثاء، في ثمن نهائي البطولة.
وكتب رونالدو عبر حسابه على منصة "إكس": "نحن نقف شامخين، نتعلم، ونتقدم للأمام معًا".

مباراة النصر والاتحاد:

افتتح كريم بنزيما لتسجيل للاتحاد في الدقيقة 15، لكن أنجيلو جابرييل أدرك التعادل للنصر في الدقيقة 30.

وأحرز حسام عوار الهدف الثاني للاتحاد في الدقيقة الثانية من الوقت المتحسب بدلاً من الضائع في الشوط الأول.

بهذه النتيجة، يثأر الاتحاد من النصر، إذ خسر العميد أمام العالمي 2-0، في آخر مواجهة جمعتهما في مسابقة الدوري السعودي.

طباعة شارك كريستيانو الاهلي الزمالك

مقالات مشابهة

  • رئيس وزراء قطر: نتابع التحديات التي تعرض لها وقف إطلاق النار بغزة
  • الجوائز العربية… والثقافة التي تضيء أفق المستقبل
  • صدق أو لا تصدق.. رونالدو خسر آخر 20 بطولة رسمية مع الفرق التي لعب لها
  • الأموال التي حوّلت من لبنان.. أين أصبحت؟
  • إسرائيل تُقرر توسيع المنطقة التي تسيطر عليها داخل قطاع غزة
  • الدقم.. المدينة التي تُصنع لتُعاش
  • رجال الله أيقونة البذل التي ما غابت عن سماء العِزة
  • إسرائيل: الجثة التي أعادتها حماس لا تعود لأي من المختطفين في غزة
  • شاهد.. أهم الأسباب التي منحت ريال مدريد الفوز على برشلونة