عندما تتراجع فكرة المواطنة
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
سنضع إشكاليات العنوان أعلاه في السياقات الخليجية الستة بصورة استشرافية، من منطلقات راهنة على أن يؤخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل دولة، فمنذ 5 سنوات أو أكثر قليلًا نرصد تراجعًا في الكم والنوع لحقوق أساسية للمُواطنين، وهذا التراجع ليس محدودًا ولا مُؤقتًا، وإنما يُؤسِّس لمرحلة مُستدامة براديكالية غير محسوبة لكامل النتائج والتداعيات، وبالذات اجتماعيًا؛ وذلك بعد اتجاه الحكومات الخليجية إلى تبني منظومة الضرائب ورفع الدعم بصورة متدرجة عن خدمات اجتماعية أساسية، وفتح المجتمعات على آيديولوجيات وأفكار، بعضها دون ضوابط وبديناميكية تفتقر للخطط الممنهجة المدروسة.
كما إن لها تداعيات بنيوية على المجتمعات الخليجية، وبالذات على مستقبل علاقة البني التحتية والفوقية، وكذلك مستقبل هوياتها المتعددة والمتنوعة، ومن هذه الحيثيات جاء اختيارنا لعنوان المقال؛ لأنه عندما تتراجع فكرة المواطنة في إصلاحات الحكومات الجديدة مهما كان الفكر الاستراتيجي للإصلاحات، يكمن وراؤه غالبًا تقليص حقوق أساسية للمواطنين اعتادوا عليها منذ عقود، ومن خلالها تأسست الشرعية الاجتماعية للحكومات، وهنا أهم الاستنطاقات السياسية، لن نتوقف عندها رغم أهميتها، ونتركها للفهم السياسي، وننتقل منها إلى التساؤل عن التداعيات الحتمية للتراجع؟
وقبل ذلك دعونا نتساءل عن أهم انشغالات الحكومات الخليجية الراهنة، وكيف تتجاهل قضية تراجع فكرة المواطنة رغم مخاطرها الوجودية؟ ربما لا يكون تجاهلًا، وإنما ورؤاه وَهم القوة الخشنة، وقدرتها على وأد المخاطر الاجتماعية، وهنا تفكير مُستنسخ من تجارب سابقة، ولم يعد صالحًا للمرحلة الجديدة، لاختلاف الكثير من المُعطيات، لعل أبرزها تغيُّر دور الدولة في الخليج، من دور الرفاهية إلى دور الجبايات والضرائب والرسوم لتغطية نفقاتها العامة، ولو بحثنا في اهتمامات العواصم الخليجية الآن عن أخطر التحديات التي ستواجهها، فلن نجد من بينها تراجع فكرة المواطنة وانعكاساتها على توازناتها الاجتماعية، وسنجدها تنحصر في تحول الاقتصاد العالمي من النفط إلى الطاقة البديلة، وصراع القوى العظمى (أمريكا- روسيا- الصين) والمخدرات والمؤثرات العقلية، والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وتحديات المياه والغذاء، والأمن الإقليمي.. إلخ.
هناك إغفال لقضية تراجع فكرة المواطنة، وهنا القلق؛ فالتراجع يُهدد بإيقاظ غول الطائفية والإثنية؛ حيث من المحتمل أن يتحوَّل الولاء والانتماء من مساره الرأسي إلى مستويات أُفقية ضيقة، وربما تُثار قضايا الشرعية والحقوق السياسية، وقد بدأت بعض أصوات النخب في كل مجتمع تثير الحقوق السياسية كأداة لضمانة بقية الحقوق، وهناك تفاوت في المطالبة، لكن مصيرها يتصاعد، وتلتقي في هذه القناعة الفكرية، وبالتالي على كل عاصمة خليجية أن تطرح فوق طاولتها السياسية بصورة مستعجلة الملفات التالية:
الأول: مستقبل منظومتي الولاء والانتماء التي تأسَّست على ضمانة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولم تُثر معها الحقوق السياسية، وكأنَّ الديموغرافية الخليجية قد قبلت بمعادلة أن ضمانة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تُسقِط حقوقها السياسية، وقد جلستُ مع مواطن خليجي رفيع المستوى، ويرى أن الحقوق السياسية هي من أجل ضمانة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واذا ما تحققت من قِبل السلطة السياسية تلقائيًا، فلماذا أطالب بالحقوق السياسية أو الدخول معها في توترات، طبعًا هذا يُعبِّر عن وجهة نظر الكثير بمن فيهم بعض النخب، ودلالته تشير إلى أن المطالبة بالحقوق السياسية ستكون حتمية إذا ما مُسَّت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
الثاني: مستقبل استدامة تجانس هوياتها المتعددة والمتنوعة في ظل اصلاحاتها المالية والاقتصادية الجديدة؟ وتطبيقات هذه الإصلاحات لعدد من السنوات، يُمكِّنها الان وبسهولة من الإجابة على هذا التساؤل؛ فهناك استياء متصاعد تجاه الكثير من الإصلاحات الجديدة التي تسحب من المجتمعات حقوقًا اقتصادية واجتماعية، وتسد الأفق امامها في غدٍ قريب.
الثالث: ما هي جماعات الهوية الرئيسة الأكثر استجابة للمتغيرات الداخلية والتقاطعات الخارجية؟ وهنا نقترح خارطة لجماعات الهوية على كل صعيد جغرافي داخل كل دولة، ويكون فيها تأثير الأسباب الاقتصادية والمالية عليها بصورة شفافة، وتقديم مقترحات عاجلة.
الرابع: ما هي طبيعة التدخلات الخارجية التي قد تثير الطائفية والاثنية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية؟ وهنا نقترح تحديد طبيعة هذه المصالح داخل كل دولة من جهة، وتحديد جماعات الهوية العابرة للحدود من جهة أخرى، وندرك بإحساس عميق طبيعة هذه التدخلات، وتحديات التعددية الطائفية والاثنية في الخليج. لا نبالغ إذا ما قلنا حتى قبل أن تكتبها التقارير الرسمية، وخشيتنا ليس في وجود التحديات، وانما من عدم التعامل معها في وقتها المستحق، وكذلك التعامل معها بأدوات سطحية.
دون ذلك، فإن أي تفكير سياسي يَغرَق في الرهانات على نتائج الإصلاحات الاقتصادية والمالية لمدى طويل دون أن يكون لها انعكاسات ملموسة على الحياة اليومية للمواطنين، سيتفاجأ بإكراهات وجودية متوسطة الاجل تعترضه؛ فقضية مستقبل الهويات المتعددة في منطقة الخليج تُطرح الان إشكاليتين أساسيتين:
الأولى: أن هناك مؤشرات مقلقة على أن الطائفية (ديني، مذهبي) تُهدِّد وحدة الهوية الوطنية، إذا لم تُستوعَب في اطار الإصلاحات/ التحولات التي تحدث في الخليج منذ يناير 2020.
الثانية: أن الإثنية (عرقي، ثقافي، لغوي، جغرافي) تهدد بدورها الانسجام الاجتماعي إذا لم يكن هناك عقد اجتماعي جديد يحدد الحقوق والواجبات، وصناعات القرارات التشاركية.
ذلك أن عهد إلزامية الإصلاحات والتحولات وحتى القرارات من قبل الحكومات في طريقها إلى أن يكون من كبرى الأسباب التي ستنتج التوترات الداخلية، لأنها تنظر للمصلحة العامة من رؤى مالية خالصة، وتعالج تداعياتها بسياسات ضعيفة، وبآجال زمنية قصيرة؛ فالمجتمعات قد أصبحت الآن واعية بحقوقها وواجباتها داخل بلدانها، وهذا الوعي قد يُترجم إلى ممارسات كلما اشتد على المجتمعات الخناق على أوضاعها المعيشية، وينسد الأفق أمام جيل الشباب في تأمين حقوقهم الأساسية كالعمل مثلًا، فلن تجد جماعات الهوية وأفرادها سوى التقوقع على ذواتها الضيقة أو التمدد في محيطها الجيوسياسي.
وهنا ستظهر الطائفية والإثنية كأخطر التحديات الوجودية داخل بيئتها الوطنية خاصة، وعموم الخليج عامة، ما لم يُعاد النظر في مسارين متعارضين، وقد يكونان من عوامل التوتر المتقدمة، فهما- إضافة إلى تراجع فكرة المواطنة- تجري الان مزاحمتها من قبل هويات عابرة للحدود الخليجية، وتثور حولها القلق السياسي من حيث تعدادها المتزايد ونفوذها المالي والاقتصادي وداعمها السياسي الإقليمي والدولي الذي غالبًا ما يستغل النزاعات الطائفية والاثنية لتحقيق أهدافه الخاصة.
وفي تجارب عديدة تكون هي مصدر صناعة النزاعات، فكيف الآن بوجود مؤشرات داخلية متصاعدة كفيلة لوحدها بإثارة جماعات الهوية الرئيسية، ومعها لن نستبعد؛ بل هو حتمي من تداخله في تفكيك المجتمعات الآمنة والمستقرة عن طريق صناعة الصراع الطائفي والإثني، وستصعب على الدول إخماده لأنه سيكون صراعًا له دوافعه الداخلية كذلك.
لذلك، فلا بُد على الدول الخليجية الستة- كل على حدة- وبتعاون مشترك في آن واحد إعادة إدارة تعددها وتنوعها الديني والمذهبي والاجتماعي والجغرافي والثقافي اللغوي، ودراسة تأثره بإصلاحاتها الاقتصادية والمالية والأيديولوجية، ولا يمكن لأي دولة منها الرهان كثيرًا على واقعها الراهن لهذا التعدد والتنوع؛ لأن التعدد الطائفي والإثني قد أصبح مستهدفًا من قوى إقليمية وعالمية لتحقيق أجنداتها في المنطقة من خلال أدوات ناعمة وليست عسكرية، وهي ستكون الأكثر تأثيرًا، والاكبر نتيجة في ظل إصلاحاتها الجديدة، وفي ظل وجود أكثر من 30 مليون وافد في الدول الستة، نسبتهم وصلت في احداها إلى 90%.
هذا الملف لا يؤجَّل، وندعو إلى فتحه من الرؤى والحلول التي أوضحناها سابقًا، فأي فشل في إدارة التنوع والتعدد، سيُظهر غُولها من ركام عجز التنمية والإدارة السياسية في التواقيت المُستحقة، وتداعيات الفشل ستكون غالية، فما بعد غزة، وما سبقها من حروب وتهديدات، تجعل الخطوة التالية إقامة شرق أوسط جديد مختلف عن حيث فاعليه المؤثرين وخارطة المنطقة الجيوسياسية، وذلك حتى يُدمج الكيان الصهيوني فيه بسهولة، ويتولى قيادته، وتُستدام له على وقع انفجار التعددية والإثنية داخل كل دولة، وليس أي دولة... اللهم يا من جعلت لنا أوطانًا نسكن فيها وتسكن فينا، احفظ وطننا وأوطان المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأدم عليها نعم الأمن والأمان والاستقرار.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بوتين يوافق على فكرة حظر بيع السجائر الإلكترونية بالكامل في روسيا
وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على فكرة حظر بيع السجائر الإلكترونية (الفيب) بالكامل في روسيا.
وقال بوتين، خلال زيارته لمركز تعزيز الرياضات التكيفية في سامارا: "انظروا، دميتري نيكولايفيتش يهز رأسه .. حكومتنا تدعم ذلك"، في إشارة إلى نائب رئيس الوزراء دميتري تشرنيشينكو، وذلك وفقًا لوكالة أنباء "تاس" الروسية.
وجاءت تصريحات الرئيس الروسي استجابة لطلب من رئيسة الحركة العامة الروسية "الوطن الصحي" إيكاتيرينا ليششينسكايا، التي ناشدت بوتين فرض حظر كامل على السجائر الإلكترونية، مشيرة إلى تجارب إيجابية مماثلة في دول مجاورة وعدد من دول العالم.
وأومأ بوتين بالموافقة على الطلب، مؤكدا توجيهه بوضع إجراءات لحظر السجائر الإلكترونية في جميع أنحاء روسيا.
وشدد على أهمية العمل التوعوي بين الشباب، مؤكدا أن "القرار وحده ليس كافيا دون القيام بالعمل المناسب" لحماية هذه الفئة من أضرار التدخين الإلكتروني.