مشروع وطني لتوثيق الآثار العمانية
تاريخ النشر: 15th, January 2024 GMT
هذا المقال.. أكتبه بمداد الأمل والألم المختلط اعتلاجًا في نفوسنا، وبعرق البحث والتنقيب المتصبب من أجسادنا ونحن نستكشف المنطقة ونوثق ما استطعنا من آثارها تحت أشعة الشمس، وبكلمات الكتب وسطور الدراسات التي سهرنا عليها لنعرف جذور نشأة حضارتنا العمانية. أما الدافع لكتابته فهو ما صدمنا صباح يوم 29 ديسمبر 2023، عندما ذهبت وابني عبدالرحيم لبدء يوم جديد في توثيق مدينة كدم، ففوجئنا أن منطقة الآثار الدينية؛ ومنها «معبد ني صلت»، جُرفت أرضها بالمعدات وحملت أتربتها بالقلابات، ومحيت طوبغرافية الأرض؛ بما فيها من صخور عليها شواهد ورسوم.
قررنا أن نؤجل توثيق هذا الجانب من المنطقة؛ لأن ما بقي من معالمها اختفى تحت سجف الأتربة، وغطيت الرسمات الصخرية. وانتقلنا إلى جهة أخرى، فكانت الصدمة التالية، فها هي معدات الجرف تسحق الأرض أمام أنظارنا، لقد وصلتُ لحالة من اليأس كدت أنصرف عن مشروع التوثيق. ولكن سارعت متصلًا بمسؤولي البلد ليوقفوا التخريب، فتواصلوا جزاهم الله خيرا بصاحب المعدات، وأخبروه بأن يتوقف عن نقل التراب من المنطقة. وما زلت ساعيا لأجل المحافظة على هذه الآثار التي يبلغ عمرها خمسة آلاف سنة، فما يدمر منه لا رجعة له، ولات حين مندم.
عام 2019.. وضعت تصورا لتوثيق الرسمات والكتابات الصخرية بسلطنة عمان، لما رأيت من تدمير متواصل لشواهدنا الحضارية، فقمنا بزيارات استكشافية لكثير من المناطق؛ من خصب حتى صلالة، ورأيت ما تتعرض له حضارتنا من محو، بفعل التوسع العمراني المتسارع. لقد وجدت حينها تجاوبا سريعا من مسؤولي الوزارة، وصدر توجيه بتشكيل فريق عمل لذلك، وبالفعل بدأتُ بتشكيله، وقد حالت دون ذلك الظروف التي مرت بها عمان بوفاة جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه-. لم أتوقف عن المشروع، فبادرت للقيام بما أستطيع له، وانضم معي ابني عبدالرحيم؛ ولأن عمان كبيرة؛ وآثارها لا تحصى، فقد اخترنا مدينة كدم، لاستكشافها وتوثيقها، والكتابة عنها.
استصدرنا الموافقة الرسمية لمشروعنا، ثم أعددنا أجهزة التصوير والتوثيق، وشرعنا في العمل، وقد كتبت تقريرا عمّا نفذناه خلال فصول الشتاء، منذ شتاء 2019/ 2020، بعنوان «كدم.. أقدم مدينة عمانية وأول تقرير عن توثيقها» نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 10/ 1/ 2023. وبعد الانتهاء من توثيق المنطقة الإدارية «منطقة المحمود» جرى بيني وبين عبدالرحيم نقاش: هل نوثق هذا العام السور أو المنطقة الدينية؟ فرسا الرأي بأن نوثق السور لسببين: لأنه ممتد يحيط بمدينة كدم، فهو عرضة لأن يدمر من أكثر من مكان، وعلينا أن نسارع بتوثيقه، خاصة بدت لنا المنطقة الدينية أقل عرضة للتدمير، ولأننا قد جمعنا مادة توثيقية جيدة، حيث مسحنا كل المدينة الإدارية تقريبا، وكانت رغبتنا قوية لأن نخرج شيئًا من عملنا، ليرى النور، ويستضيء به الباحثون. ولكن صدمنا ما وقفنا عليه من توغل التدمير في المنطقة الدينية.
إن تتابع التدمير يجعلنا في قلق دائم، وجدولة مستمرة لمناطق التوثيق، وحالنا كقول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وليت ما تكاثر علينا ضباء خراش، وإنما هي «وحوش المحو» كما أسميتها في مقال بعنوان «وحش المحو ينهش حضارتنا»، نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 16/ 11/ 2020، ومما قلته فيه: (إن الحفاظ على آثار تلك الحضارة الفخمة بات واجبا وطنيا، يجب أن تتجه إليه عناية الحكومة بمؤسساتها التي تمُت بصلة لتراث البلد وثقافته، بل أرى بحسبما وقفت عليه من تعدٍّ على الآثار وجوب إعلان الطوارئ للحفاظ عليها، ولقد تتبعت كثيرا من مواقعها التي تتعرض يوميا لمحو رسماتها وثلم نقوشها المحفوظة على الحوائط الصخرية، وإبادة أطلالها من أسوار ومبانٍ وقبور، سواءً أكانت على سطح الأرض أو سفوح الجبال أو في بطون الأودية وبين شعابها... وقد وقفت على [كثير منه] بنفسي، والكثير منه التقطت منه صورا، لتبقى شاهدةً على المأساة التي تقتلع جذور حضارتنا، إن ما أفنته الخمسون السنة الأخيرة من هذه الآثار يضاهي ما أتت عليه عوادي الدهر خلال الخمسة آلاف سنة الذاهبة، ولا أبالغ فيما أقول، فالواقع أصدق شاهد، وبالإمكان رصده في أي يوم، فلا يزال وحش المحو يفري بمخالبه أديم أثمن كنوزنا الحضارية).
بات من اللازم السعي حثيثا إلى إيجاد طرق للحفاظ على ما بقي من ثروتنا الحضارية؛ سواءً أكان رسمات صخرية، أم كتابات على الصخور والجدران وسقوف البيوت والمساجد والقلاع، أم غيره مما يلزم مسحه وتوثيقه، ومن أهم هذه الطرق:
- أن تقوم وزارة التراث والسياحة بمسح شامل للآثار؛ بغض النظر عن حجم الموقع، وعن فرادته أو تشابهه مع مواقع أخرى، فكل الآثار في ميزان العلم مهمة، ولا يكاد تميز بينها في ذلك، وعلى الوزارة أن تضع اللوائح التحذيرية من التعدي على الآثار، وأن تنشئ فريقا لمتابعتها دوريا، حتى لا يُتعدى عليها.
- تكليف المؤسسات الأكاديمية والبحثية الباحثين بعمل دراسات مسحية وتوثيقية على مواقع الآثار، وتقديم تقرير عن حالتها، وعمّا تتعرض إليه من تخريب وتشويه، لوزارة التراث والسياحة.
- أن تقوم الجهات الصحفية والإعلامية بدورها في التوعية المستمرة بأهمية الآثار، وخطورة التعدي عليها، وتجريم من يمسها بتخريب أو تشويه، وأن تستضيف لذلك المختصين من الآثاريين والقانونيين والمهتمين بالحضارة العمانية.
- أن تفتح وزارة التراث والسياحة تطبيقا إلكترونيا لتلقي بلاغات ما يراه الناس تعديا على الآثار، فتسعى الوزارة إلى التحقق منه، ورفع دعوى ضد من سولت له نفسه بالتعدي.
- إنشاء مشروع وطني لتوثيق الآثار العمانية، وهذا ضروري في الوقت الحاضر، حيث إنها تتعرض لتدمير يومي، وأقصد الظاهر منها، وليس المخبوء تحت الأرض الذي يحتاج إلى تنقيب، فهذا تكفل باطن الأرض بحفظه. أما الظاهر فهو المعرض للدمار، سواء من قِبَل الجهات المنفذة لمشاريع البُنية الأساسية كالطرقات وخطوط الكهرباء والمياه، أو الشركات التي تقطع الرخام من الجبال وتجرف الرمال، أو ما يحوزه الناس من أراض، يقومون بتعميرها دون معرفة ما بها من كنوز حضارية.
أرجو أن تسارع الحكومة إلى إقامة هذا المشروع، بحيث تضم إدارته أعضاء من وزارة التراث والسياحة، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، والمؤسسات الجامعية المعنية بالآثار، ومن يعملون في التوثيق الحضاري، ومَن يمكن أن يخدم المشروع. على المشروع أن يشكّل فِرَقًا في كل محافظات سلطنة عمان، وأن يقوم بتدريبهم وعقد ورش عمل لهم في التوثيق العلمي الموضوعي. وأن يجهز الفِرَق بالأجهزة اللازمة للتوثيق وحفظ الصور بالإحداثيات والمقاسات المعتمدة. ويمكن أن يسهم المنتدى الأدبي في وضع تصور لهذا المشروع، وآليات عمله، وإقامة ورش عمل لتنفيذه.
فالبدار البدار.. قبل أن يستفحل الخراب والدمار، فنحن مسؤولون حضاريا ووطنيا عن كنوز عمان العلمية والتاريخية التي لا تعوّض بثمن.
خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التراث والسیاحة
إقرأ أيضاً:
استثمارات تتجاوز 78 مليون دولار.. مدبولي يفتتح مصنعًا لمواد البناء ويتفقد مشروع الكربون بالسخنة
قام الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء بإفتتاح مصنع " "أدو مينا" لصناعة مواد البناء وتفقد مصنع "إيجيبت أنود" لتصنيع البلوكات الكربونية بالمنطقة الصناعية التابعة لشركة أوراسكوم للمناطق الصناعية OIP في العين السخنة اليوم، وذلك في إطار جولاته الدورية لمتابعة المشروعات الاستثمارية والصناعية داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
وقد رافق رئيس الوزراء في زيارته كلاً من الفريق مهندس كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية، ووزير الصناعة والنقل، والمهندس محمد شيمي، وزير قطاع الأعمال العام، ووليد جمال الدين، رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، اللواء دكتور طارق حامد الشاذلي، محافظ السويس، إلى جانب المهندس عمرو البطريق، الرئيس التنفيذي لشركة أوراسكوم للمناطق الصناعية.
وقد قام رئيس الوزراء بجولة شاملة بالمنطقة الصناعية التابعة لشركة أوراسكوم للمناطق الصناعية OIP والتي ضمت مصنع "أدو مينا" لصناعة مواد البناء، والذي يعد من أبرز المشاريع الصناعية الجديدة داخل منطقة قناة السويس، حيث يختص بإنتاج البروفايلات الطولية من مادة PVC وأبواب PVC، باستثمارات تبلغ 20 مليون دولار ويعمل على توفير فرص عمل مباشرة لحوالي 250 موظفًا.
كما تفقد رئيس الوزراء والوفد المرافق له مقر شركة "إيجيبت أنود"، التي تأسست عام2007 باستثمارات تبلغ 58.5 مليون دولار، وتعد من أكبر الشركات العاملة في تصنيع البلوكات الكربونية (Carbon Blocks) المستخدمة في الصناعات الثقيلة، وتوفر فرص عمل لما يزيد عن 127 موظفًا.
وفي هذا السياق، صرح المهندس عمرو البطريق، الرئيس التنفيذي لأوراسكوم للمناطق الصناعية، قائلاً: "نفخر بأن نكون شركاء في هذا النجاح الذي يعكس رؤية الدولة في دعم التصنيع المحلي وجذب الاستثمارات الدولية. حيث تمثل استثمارات شركات مثل" أدو مينا" التركية و" إيجيبت أنود" نموذجًا على ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين في البيئة الصناعية المصرية، وفي قدرتنا كمطور صناعي على توفير بنية تحتية عالمية المستوى تدعم النمو المستدام."
وأضاف البطريق أن منطقة السخنة تشهد توسعًا متسارعًا بفضل موقعها الاستراتيجي ضمن نطاق المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، مؤكداً أن أوراسكوم للمناطق الصناعية مستمرة في استقطاب المزيد من الاستثمارات من مختلف الدول، وتعزيز التكامل الصناعي في مصر بما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية ويوفر فرص عمل نوعية للشباب."
وتأتي هذه الزيارة لتؤكد الدور الريادي لشركة أوراسكوم للمناطق الصناعية في دعم التنمية الصناعية وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مصر، حيث تعد من أوائل المطورين الصناعيين العاملين داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي توفر بيئة أعمال متكاملة تتيح للمستثمرين العمل بكفاءة واستدامة.