سعيد الزبيدي وحكاية «الغريب» المنقِذ
تاريخ النشر: 3rd, May 2025 GMT
حين قُبِلَ الفتى في قسم اللغة العربية بكلية التربية، وجد نفسه أمام مأزق لم يخطر له ببال. لم تكن أسرته تملك حتى رسوم التسجيل البالغة أربعة دنانير. اقترح عليه والده أن يستدين من قريب ميسور الحال، لكن القريب خذله ورفض. لم يتبقَ سوى يوم واحد لتسديد المبلغ، واسودّت الدنيا في عينيه، إذ شعر أن حلمه الجامعي بات قاب قوسين أو أدنى من التبخر.
من دون وعي، غادر قريته متجها إلى بغداد، مثقلًا بالحسرات واليأس. هناك، وقف عند باب الكلية مأزوما، يتأمل بحسرة عشرات الفتيان والفتيات الذين كانوا يرتدون أجمل الثياب، يستقبلون المستقبل بفرح، وقد دفعوا رسومهم ليبدؤوا رحلتهم الجامعية بعد يومين. في المقابل، كان هو غارقا في إحباط عميق، وقد ظن أن أبواب الجامعة ستُغلق أمامه.
وبينما كان يحبس دموعه بصعوبة، شعر بيد تربّت على كتفه. التفت، فإذا برجل مهيب وأنيق يسأله بحنو: «ماذا يبكيك يا ولدي؟»
غالب الفتى دموعه ولم يستطع النطق. غير أن الرجل، وقد قرأ الحكاية في عينيه، أمسك بيده وقال: «تعال معي».
قاد الرجل الفتى إلى غرفة خُطّ على بابها «غرفة الأساتذة». أجلسه، ثم بادره قائلًا: «لقد أحرقت قلبي دموعك! ما قصتك؟».
بعد تردد، سرد الفتى للأستاذ حكاية الرسوم التي لم تُدفع. عندها، لم يتردد الأستاذ لحظة، فاستدعى عامل الخدمات، وأعطاه ورقة كُتب عليها اسم الفتى، مع ورقة نقدية من فئة خمسة دنانير، وطلب منه تسديد الرسوم وإحضار إيصال التسجيل. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سهّل له أيضا إجراء المقابلة المطلوبة مع بقية الأساتذة، ومنحه دينارًا للعودة إلى قريته، مطالبا إياه بالعودة بعد يومين للالتحاق رسميا بالكلية.
ذلك الفتى لم يكن سوى البروفيسور سعيد الزبيدي، الباحث والأكاديمي المعروف، الذي يعيش في سلطنة عمان منذ نحو ربع قرن. وقد روى هذه الحكاية بنفسه في شهادته التي نشرها في كتاب «سيبويه الأخير»، الصادر عن مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية بجامعة نزوى تكريما له بمناسبة بلوغه الثمانين.
كما أعاد سردها في حواري معه ضمن برنامج «ضفاف»، مسمّيًا الأستاذ المنقذ باسمه في المرتين: الشاعر والباحث العراقي الراحل هادي الحمداني، الذي لم يكن يدرك حينها أن موقفه الإنساني هذا سيكون نقطة انعطاف في حياة منقذه الشاب، ليتحول لاحقاً إلى أحد أبرز علماء اللغة العربية العرب.
أجمل ما في هذه الحكاية أنها حدثت بين غريبين لا تربطهما صلة قربى أو مصلحة. ولم يكن إنقاذ الفتى واجبًا يفرضه الدم أو الجوار، بل عمل إنساني محض، نابع من رغبة في الخير، ومن شعور عميق بالرحمة والواجب الأخلاقي تجاه الإنسان في ضعفه وانكساره.
هذا الموقف ذكرني بعشرات الحكايات المماثلة التي زخرت بها الذاكرة الإنسانية والتراث الأدبي، حيث يلتقي القدر بالرحمة، فتكون النتيجة تغييرًا جذريا في مصير إنسان، وأحيانا في مصير أمة بأسرها. من تلك الحكايات ما رواه المؤرخ المقري التلمساني في كتابه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» عن صقر قريش عبد الرحمن الداخل. في أشد لحظات ضعفه وهروبه من بطش العباسيين، التقى راعيا بسيطًا لا يعرفه، لكنه سقاه وحماه وأرشده إلى الطريق الآمن نحو المغرب، ثم الأندلس، حيث أسس دولته التي دامت مئات السنين. وقد ظل الداخل يذكر هذا الجميل طيلة حياته.
أما في الأدب، فتبرز حكاية لا تقل شهرة، وهي حكاية الأسقف ميريل في رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو؛ حين لفظ المجتمع البطل جان فالجان بعد خروجه من السجن، كان الأسقف وحده من احتضنه وأطعمه وآواه. غير أن فالجان قابل الإحسان بالإساءة فسرق شمعدانين من الفضة للأسقف وهرب بهما، لكن الشرطة ارتابت فيه وألقت القبض عليه، وهنا أنقذه الأسقف من جديد بادعائه أنه لم يسرق الشمعدانين وإنما هو من أهداه إياهما عن طيب نفس. وقد غير هذا الموقف مجرى حياة جان فالجان، الذي قرر من تلك اللحظة أن يصبح رجلًا صالحًا.
في كل هذه الحكايات، سواء أكانت قد حدثت في الواقع أو في مخيلة الأدباء، تمتد يد «الغريب» إلى إنسان يائس، في اللحظة التي هو في أمسّ الحاجة إليها، لتغير مسار حياته، وتجعله ممتنا طوال حياته لتلك اللحظة النبيلة.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
حكاية «نورزاد» زهرة الجنة.. دخلت المستشفى سيرا وخرجت منها لـ الطب الشرعي| صور
قبل أكثر من 35 يوما كانت نورزاد تعيش حياتها كمثلها من الفتيات، فهي زهرة تمتلك 23 ربيع، دخلت إلى المستشفى يوم 23 يونيو لإجراء دعامة بالقناة المرارية باستخدام المنظار، لكن أثناء العملية ونتيجة لخطأ طبي على حد قول أسرتها خرجت لهم في كفنها إلى الطب الشرعي في 22 يوليو.
حكاية المهندسة نور عروسة الجنة سردتها خالتها مريم، حيث قالت لـ صدى البلد «أن مريم كانت عروسة الأسرة وكان الجميع يحبها، إلا أنها دخلت المستشفى بكل بساطة لإجراء عملية منظار، وفجأة تدهورت الحالة يوما بعد يوم حتى يوم 22 يوليو حينما تم إبلاغهم بوفاتها».
شرحت أسرة المهندسة نور الحالة «دخلت نور إحدى المستشفيات الخاصة يوم ٢٣ يونيو لإجراء دعامة بالقناة المرارية باستخدام المنظار، لكن أثناء العملية، تسبب الجراح في ثقب بالإثنى عشر أدى لتسرب خطير داخل تجويف البطن».
وتابعت الأسرة «رغم وضوح علامات الخطر، أُهملت حالتها يومين كاملين دون تدخل جراحي، مما أدى إلى تسمم دموي وانهيار تدريجي في وظائف الجسم التدخل لم يتم إلا بعد استشارة طبيب خارجي أبلغنا أن حياتها في خطر، فتمت الجراحة التصحيحية بنجاح».
واستكملت الأسرة «لكن بعد الجراحة، بدأت أزمة جديدة في التنفس، وفشل الأطباء في تشخيص السبب بدقة، وتم التعامل معها فقط بشكل عرضي تدهورت حالتها عدة مرات، وأُعيدت للرعاية المركزة أكثر من مرة دون قرارات طبية حاسمة».
وفي المرة الأخيرة، يوم الاحد ٦ يوليو بدأت أعراض اختناق شديد، لكن طبيب الرعاية المناوب رفض الحضور قائلاً: “مافيش داعي للمبالغة”… ورغم توسلاتنا، لم يتدخل بعد فترة قصيرة، توقف قلبها لمدة 45 دقيقة، ما أدى إلى تلف دائم في خلايا المخ.
ودخلت في غيبوبة لم تفق منها، وتوفيت بعدها بأسبوعين يوم ٢٢ يوليو ، خرجنا من المستشفي علي مشرحه زينهم و قاموا بتشريح رغم انه قرار صعب بس مش هيبقي اصعب علينا من الحصل و واثقين ان حقها هيرجع لو تم التشريح.
أكدت أسرة المهندسة نور «نور ماتت بسبب الإهمال والتأخير وسوء التشخيص، وده مش مجرد خطأ طبي دي جريمة، خطأ طبي تسبب في ثقب لها وترك الحالة يومين بدون تدخل وتشخيص غير دقيق لها ثم إهمال متكرر داخل غرفة العناية المركزة وتأخر في إنعاش القلب نتج عنه تلف في المخ».