عرض عالمي بروح مصرية

 

فى زمنٍ تتزايد فيه العروض المسرحية التى تستغل نوستالجيا التراث دون أن تضيف إليه، يأتى عرض «أم كلثوم: دايبين فى صوت الست» كنفحة متجددة تُعيد تعريف العلاقة بين الأسطورة وجمهورها، لا بوصفها مزارًا يُقدَّس من بعيد، بل ككائنٍ من لحمٍ ودم، يعيد إلينا صوتها لا كذاكرة فحسب، بل كحضور درامى نابض بالإنسانية.

 المسرحية التى يهيمن عليها وجه أم كلثوم فى الأفيش وحده، قبل أن تبدأ، تُوهم المتفرج بأنه سيخوض تجربة كلاسيكية تقليدية، لكن ما إن تُطفأ الأنوار حتى يجد نفسه داخل عالم مغاير تمامًا؛ عالم شبابى مفعم بالحيوية، تتسرب فيه روح «الست» عبر أجيال جديدة لم تعاصرها، لكنها تحمل دهشتها وكبرياءها وشغفها بالحياة على نحوٍ يدهش ويُبهر فى آنٍ واحد.

الدهاء الحقيقى للعمل يتجلى فى النص الذى صاغه الشاعر والمؤلف الدكتور مدحت العدل والذى أنتج العمل أيضا، فهو أدرك أن أى مقارنة مباشرة مع أم كلثوم بصوتها الأصلى ستكون مغامرة خاسرة، فاختار أن ينسحب بذكاء من ميدان المنافسة، لينشئ ميدانًا جديدًا بالكامل، حيث الغناء يتحول إلى أداة درامية لا غاية ترفيهية، ليقدم عرضا مسرحيا ميوزيكال تستخدم فيه الأغنية لتعرية المشاعر وتكثيف الإحساس الداخلى بالشخصية، هنا لا نسمع أغنيات أم كلثوم كما اعتدناها، بل نسمع ما يمكن أن تكون قد غنّته لو عاشت فى زمنٍ آخر، إذ ينجح النص فى بناء جسر بين الماضى والحاضر، ليجعل الجمهور ذاته «دايب فى صوت الست» لا لأن الصوت يُستعاد، بل لأن روحه تُستحضر من جديد.

المخرج الشاب أحمد فؤاد يُقدّم فى هذا العرض درسًا بليغًا فى كيفية تحويل القيود إلى إمكانات. فبدلًا من أن يقع فى فخ التقليد أو التقديس بالصورة التاريخية، اختار أن يصنع عالَمه الخاص، مُوظفًا أدواته الحديثة التى تعلمها من تجربته الأكاديمية بين مصر وإيطاليا، حيث امتزج الحس المصرى بالتكوين البصرى الأوروبى. منذ المشهد الأول الذى يبدأ أمام المرآة وينتهى عندها، يُدرك المتفرج أنه أمام مخرجٍ يمتلك وعيًا بالرمز وبالبناء الدائرى الذى يعكس رحلة الوعى بالذات، المرايا هنا ليست مجرد عنصر ديكورى، بل أداة درامية تُضاعف حضور الشخصية وتكثّف أسئلتها: من هى أم كلثوم حين تنظر إلى نفسها بعيدًا عن الضوء؟ وما الذى يبقى من الأسطورة حين تنكسر على زجاج الذات؟

فى السينوغرافيا، تبدو الرؤية غنية وواضحة، التصميم المسرحى يوظف الإضاءة كوسيط نفسى يُعبّر عن حالات التبدل والانفعال، ويساعد فى ذلك التقنيات الحديثة المستخدمة خاصة واستخدام الشاشات على المسرح ليس كعاكس بل كجزء من العرض، حيث تتحول الخشبة إلى مساحة متعددة الطبقات تُعبّر عن الزمن الداخلى للشخصية أكثر مما تُعبّر عن المكان، ساعد فيها مدير الإضاءة إيهاب عبد الواحد، وقد استخدم المخرج تقنيات متقدمة تتجاوز الهولوجرام، لتقديم تحولات الشخصية بطريقة بصرية مذهلة دون أن تسقط فى الاستعراض الفارغ، هذا التوظيف الذكى للتكنولوجيا لم يكن هدفًا تجميليًا، بل جزءًا من النسيج الدرامى الذى يخدم المضمون ويعمّق المعنى، صاغة المهندس محمود صبرى كديكوراستخدم فيه كل إمكانيات المسرح.

أما الأداء التمثيلى، فهو مفاجأة العرض الحقيقية، أكثر من سبعين فى المئة من المشاركين يقفون على الخشبة للمرة الأولى، لكنهم يقدمون أداءً يشى بتدريبٍ واعٍ وفهمٍ عميق لطبيعة الأداء المسرحى. المخرج ومساعده محمد مبروك نجحا فى إدارة هذا العدد الكبير من الممثلين بروح الفريق الواحد، بحيث بدا أن الثمانية عشر ممثلًا يؤدون أدوارًا تتكاثر كأنهم ثمانون، يتنقلون بين الشخصيات والأزمنة بسلاسة، فى تجسيدٍ متقن لمفهوم «تعدد الوجوه الدرامية». الممثلون يغنون ويمثلون، فى حالة من التكامل النادر بين التعبير الصوتى والتعبير الجسدى، وهى سمة لا تتحقق إلا فى العروض الموسيقية الكبرى التى تُدار باحترافية عالية، خاصة المبدعة التى قدمت شخصية منيرة المهدية بصوت أوبرالى وأداء تمثيلى مبهر، وكذلك شخصية أم كلثوم التى جسدتها أسماء الجمل وقدمت دورها فى الطفولة الطفلة ملك أحمد فى أول دور تمثيلى لها على المسرح ما يبشر بتخريج دفعة مسرحية تليق باسم أم كلثوم، بمشاركة أحمد على الحجار فى دور عبد الوهاب وسعيد سالمان فى دور أحمد رامى وعماد إسماعيل ويوسف سلامة فى دور القصبجى والسنباطى.

جرأة العرض لا تكمن فى إسلوبه الإخراجى فقط، بل فى موقفه الفكرى من الأسطورة، ففى الوقت الذى اعتادت فيه الأعمال الفنية التعامل مع نجومية أم كلثوم بوصفها طقسًا من التقديس، يتعامل هذا العمل معها كإنسانة تخوض صراعات الغيرة والمنافسة والمرض والانتصار، يعترف لأول مره بمشاعرها عندما اعترفت بالفشل فى عرض فيلمها عايدة مقارنه بالإيرادات التى حققها فيلم عبدالوهاب فى نفس الوقت، وترد بشعورها بالنجاح عندما فازت عليه فى انتخابات نقابة الموسيقين، أيضا مشهد الغيرة بين أم كلثوم ومنيرة المهدية يتحول إلى لوحة استعراضية مشحونة بالعواطف، تتقاطع فيها الموسيقى مع الإيماءة ومع اللون، فيما تكشف الأغانى التى تجمعها بأحمد رامى والقصبجى وفوزى وعبد الوهاب عن بنية درامية عاطفية تتجاوز التوثيق إلى إعادة التخيل، هذه الجرأة تجعل المتفرج يكتشف أنه أمام إنسانة تتألم وتفرح وتغار وتتنافس.

وإذا كان العرض يبدو فى لحظات كثيرة قريبًا من مستوى الإنتاجات العالمية، فذلك لأنه يتعامل مع المسرح باعتباره فنًا كليًا تتداخل فيه العناصر جميعها: النص، الإخراج، الأداء، الموسيقى، الإضاءة، والديكور، فى نسيجٍ واحد متناغم. ما قدمه د. مدحت العدل والمخرج أحمد فؤاد وفريقهما يمكن وصفه بأنه «عمل متكامل دراميًا وجماليًا»، يذكّرنا بنمط العروض الأوروبية الموسيقية الكبرى حيث تتكامل الفنون مايجعل الجمهور «يدوب فى صوت الست»، لا لأنهم يسمعون صوتها، بل لأنهم يعيشون روحها، ويشعرون بأن الست التى يعرفونها قد عادت، لكن هذه المرة لتتحدث إليهم بلغة عصرهم.

«أم كلثوم: دايبين فى صوت الست» ليست مجرد تجربة شبابية واعدة، بل هى إعلان عن ميلاد جيل جديد من المسرحيين يمتلك وعيًا بالتراث وشجاعة فى مساءلته، جيل يؤمن بأن إعادة تقديم الرموز لا تكون بتقليدها، بل بإعادة اكتشافها. العرض لا يقدّم أم كلثوم كما كانت، بل كما يمكن أن تكون لو وقفت اليوم على خشبة المسرح فى 2025، تحمل ماضيها، وتغنى بحاضرنا، وتطل علينا من مرآةٍ تعكسنا بقدر ما تعكسها. هنا يكمن سر العمل وجماله، وهنا أيضًا تتجلى براعة صُنّاعه الذين جعلوا من المسرح مساحة حرة يتنفس فيها الزمانان معًا -زمن الأسطورة وزمن الشباب- فى لحظةٍ واحدة نابضة بالفن والحياة.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أم کلثوم التى ت

إقرأ أيضاً:

ظهور لافت للقاء الخميسي عبر إنستجرام

شاركت الفنانة لقاء الخميسي متابعيها صورا جديدة من أحدث جلسة تصوير لها، وذلك عبر حسابها الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي للصور والفيديوهات “إنستجرام”.

وظهرت لقاء الخميسي بإطلالة جذابة لافتة مرتدية فستانا مشجرا باللون الأسود والأبيض، ما حاز على إعجاب متابعيها.

بهاف ستومك..لقاء الخميسي تستعرض جمالها عبر إنستجرام

جدير بالذكر أن لقاء الخميسي كشفت خلال حوارها في بودكاست “بداية جديدة”، المذاع عبر قناة “الحياة”، عن موقفها من مصطلح "الست بـ 100 راجل"، موضحة أنه تعبير متوارث داخل العائلات، لكنها لا تتفق معه تمامًا.

وأضافت: "ما ينفعش الست تبقى بـ 100 راجل، أنا محتاجة أتحضن وأتحب وأتشال على إني سِتّ".

وأكدت لقاء الخميسي أن الرجل هو المسئول عن العمل والإنفاق على الأسرة، في حين تتحمل المرأة مسئولية تربية الأبناء وإدارة المنزل، إلا إذا كانت تعمل، ففي هذه الحالة تتشارك المسئوليات مع شريك حياتها.

طباعة شارك لقاء الخميسي صور لقاء الخميسي اطلالات النجوم اعمال لقاء الخميسي

مقالات مشابهة

  • الأسطورة روني يفجر مفاجأة بشأن مستقبل محمد صلاح مع ليفربول
  • مديحة حمدي تكشف عن أول من أطلق على سميحة أيوب سيدة المسرح العربي
  • الأحد.. أكاديمية الفنون تحتفي بمسيرة الفنان الكبير السيد بدير بأمسية مميزة
  • ننشر توصيات قمة الاستثمار العربى الأفريقى
  • مسرحية «تُطبّق العروض والأحلام» على خشبة مسرح مكتبة مصر الجديدة
  • ظهور لافت للقاء الخميسي عبر إنستجرام
  • في عرض «بين الميه والهوا».. عائلة أشرف زكي تحتفي بابنتها مريم على المسرح|شاهد
  • فيستون ماييلى يحل أزمة الهجوم الأحمر
  • ميسي يقترب من تمديد عقده مع إنتر ميامي الأمريكي