الجزيرة:
2024-05-20@11:25:23 GMT

صحوة الشرق تبدأ من غزة

تاريخ النشر: 9th, May 2024 GMT

صحوة الشرق تبدأ من غزة

أستعير مصطلح " صحوة الشرق " من مقال قديم يعود إلى 31 من أغسطس/آب 1997م، كتبه المفكر اليساري المصري الفرنسي الدكتور أنور عبد الملك 1924 – 2012م، تناول فيه ما أسماه " حضارة الغرب المتأزمة " و " صحوة الشرق "، وقد عرّف ما يقصدُه بالشرق بقوله: " وخاصةً ما يمتّ إلى القطاع المصري – العربي – الإسلامي".

وقد تذكرت المقال ورجعت إليه بعد أن توالت المفاجآت من العيار الثقيل في حرب الإبادة على غزة، حيث إن المقاومة ثبت أن أقوى سلاحها هو ما تملكه من رصيد هائل من قيم الفداء والثبات والتضحية في سبيل الحق والحرية والعدل، نور الضمير الفلسطيني الحي الذي ظنت إسرائيل أنها قد أحاطت به حتى دفعته لليأس، ثم الاستسلام لضرورات الواقع، نور الضمير الذي كشف الطابع العنصري الوحشي للدولة الصهيونية، كما بدَّد ظلمات التخاذل العربي الإسلامي، كما فضح تواطؤ العواصم الكبرى التي باتت خاضعةً لمصالح الصهيونيّة أكثر بكثير من خضوعها لمصالح شعوبها، نور الضمير الفلسطيني الذي أعادت المقاومة إشعاعه في لحظة كانت تبدو معاكسة وغير مواتية تمامًا.

احتجاج أخلاقي

هذا الضمير أخجل المتخاذلين من حكّام ونخب وذوي المصالح من العرب والمسلمين، كما أن هذا الضمير أيقظ حركة احتجاجٍ أخلاقيةٍ كبرى في عواصم الغرب الكبرى، هو احتجاج أخلاقي على السياسة الأوروبية – الأميركية في الشرق الأوسط، كما هو احتجاج أخلاقي على ما آلت إليه حضارة الغرب الرأسمالي من انفصال كامل عن منظومة القيم الجوهرية التي كانت أعمدة الثورات الفكرية والعلمية والسياسية في الغرب على مدى القرون الخمسة الأخيرة.

فالديمقراطية الغربية باتت وعاءً وأداةً  لخدمة أقليات ذات مصالح تتداول على السلطة، هذه الأقليات ومعها الإعلام الذي يخدمها مجرد رهائن مربوطة بحبال مرئيّة أو غير مرئيّة في يد الصهيونيّة التي تموّل الحملات الانتخابية، كما تملك الإعلام، ومن ثَم تملك أخطر أمرَين: تملك صناعة النخب التي بدورها تصنع القرار، كما تملك توجيه الرأي العام، وبهذا وذاك يحدث ما يشبه التخدير، ثم التنويم الذي يضع المجتمعات الغربية في قبضة الصهيونيّة.

هذه الاحتجاجات الواسعة في جامعات أميركا بالذات لم تكن في الخيال، هي في احتجاجها ضد المؤسسة السياسية في الغرب أشبه ما تكون باحتجاجات مارتن لوثر 1483م – 1546م، ثم جون كالفن 1509م – 1564م، على المؤسسة الدينية؛ أي الكنيسة الكاثوليكية التي كانت صاحبة السيادة في شؤون الدين والدنيا على مدى ألف عام أو يزيد من تاريخ أوروبا. هذه الاحتجاجات نوّرت طريقَها قيمُ المقاومة وضميرها وبطولتها في نصرة قيم الحرية والحق والعدل، قيم الإنسانية الواحدة التي ضَمُرت تحت وطأة العنفِ والأثرة الموجهين الحاكمين للمؤسسة السياسية الغربية.

مقال الدكتور أنور عبدالملك في 31 من أغسطس/آب 1997م، كان قد كتبه – بعاطفة ممتّقدة – من وحي اليوم العالمي للشباب في 12 من أغسطس/آب من العام ذاته، حيث احتفل مليون ونصف المليون شاب من مختلف جنسيات العالم باليوم العالمي للشباب في باريس، فقد هزّ المشهد مشاعره من الأعماق، فكتب يتساءل: " هل الظواهر السلبية في العالم وما تحدثه من نزيف عميق في وجدان وفؤاد وقلوب الأجيال الجديدة يدفع بها دفعًا نحو الإيمانية، والقيم الأخلاقية، والتوجه الحضاري، في وجه أدعياء العلم باسم العلمانية، وفي وجه أعداء التحرر الوطني باسم الليبرالية الغربية، وفي وجه أنصار الصهيونية باسم الحداثة، وفي وجه التطبيع باسم الواقعية ؟ ". انتهى الاقتباس.

استنزاف معنى الإنسان

ولست أدري ماذا كان سيكتب لو عاش هذا الرجل العظيم ليرى نبوءته تتحقق على الأرض بعد ما يقرب من سبعة وعشرين عامًا على كتابتها، حيث جسارة المقاومة الشريفة في فلسطين توقظ ضمائر العالم في أكثر الأماكن التصاقًا بالضمير؛ أي: الشباب ومعاهد العلم ومدارس الفكر، حيث موطن الضمير ومنبعه. مثلما كانت حركة الإصلاح الديني قبل خمسة قرون تواجه فساد الكنيسة الكاثوليكية التي أضاعت جوهر الدين في سبيل مصالح البابوية ومن حولها من شبكات الانتفاع والنفوذ، فكذلك احتجاجات الجامعات ضد فساد المؤسسة السياسية ونخبها الرهينة لدى التمويل والإعلام وشبكات المنافع والمصالح والنفوذ الصهيونية.

وقد يسأل سائل: هل هذه صحوة الشرق أم صحوة الغرب ؟. هما كلتا الصحوتين في وقت واحد:

1- صحوة الشرق مما كان قد آل إليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م من ظواهر سلبية لخصّها الدكتور أنور عبدالملك قبل سبعة وعشرين عامًا في: ادعاء العلم باسم العلمانية، والعداء للتحرر الوطني باسم الليبرالية، والانحياز للصهيونية باسم الحداثة، والسعي للتطبيع باسم الواقعية، لاشك أن المقاومة الشريفة وضعت كل ذلك في موضعه الصحيح من التاريخ، مجرد انتكاسة في تفكير حكام ونخب العرب والمسلمين، انتكاسة مرتدة لها سوابق في التاريخ بالذات في مراحل التخدير والتنويم، ثم تتوفر عوامل الإفاقة، فيزول أثر التخدير، كما يزول النوم، فيدرك الناس الحقّ والحقيقة على وجههما الصحيح.

2- ثم هي صحوة للغرب، بمعنى صحوة وعي ويقظة ضمير، أو بتعبير الدكتور أنور عبدالملك: اندفاع قلوب الأجيال الجديدة دفعًا نحو ثلاثة أشياء: الإيمانية، القيم الأخلاقية، التوجه الحضاري، والثلاثة لم يعد لها من مكان في حضارة الغرب بعد التطور غير المسبوق في التكنولوجيا مترافقًا مع استنزاف رأسمالي لمعنى الإنسان من لحظة مولده حتى لحظة وفاته، ثم مع أيلولة الحضارة الغربية للخضوع لتفوق اليهود في كل المجالات؛ حتى تمكّنوا من قيادة الحضارة الغربية ورسم ملامحها .

الفرق بين صحوة الضمير في الشرق والغرب، أن الشرق محكوم بدكتاتوريات لا تحتمل ولا تطيق مواجهة مع شبابها في معاهد العلم، أما الغرب – فرغم فساد ديمقراطيته الراهنة – فإن أهله يحصدون ويتمتعون بثمرات كفاح بطولي على مدى عدة قرون من أجل تحصين الحريات الفردية والعامة وغلّ يد الحكام عن المساس بها، لدى شعوب الغرب تاريخ من التمرين والتدريب على ممارسة الحرية والدفاع عنها، فكم قطعوا – في سبيلها – رقاب ملوك عظام أكابر كانوا يزعمون الحكم بالحق الإلهي، وأنهم نواب الله وظله على الأرض، ورغم هذا فلولا عظمة البطولة في غزة لما كانت هذه الصحوة للضمير في الغرب.

استدعاء الضمير في معالجة الحق الفلسطيني بات واجبًا، أقصد الضمير الغربي، ففي المائة والخمسين عامًا الأخيرة، أي من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا في خواتيم الربع الأول من القرن العشرين، وهي مجمل عمر وتاريخ الصهيونية كفكرة، ثم كمشروع، ثم كدولة في فلسطين، ثم كقائدة في الشرق الأوسط، ثم كقوة هيمنة في الحضارة الغربية، على مدى هذا التاريخ كله، كان الغائب دائمًا هو الضمير الغربي فيما يخصّ الحق الفلسطيني،.

استدعاء الضمير الغربي

المصالح المادية الآنية العاجلة كانت توجه قرارات الساسة ونخب الحكم، وكانت السطوة الإعلامية مع الدعاية الصهيونية توجه الرأي العام، فلم يفكر الحكام من بريطانيا الربع الأول من القرن العشرين حتى أميركا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في غير مطالب الصهيونية وإملاءاتها سواء وافقت الحق أو العدل، أم كانت محض باطل ومحض ظلم.

على مدى المائة والخمسين عامًا وحتى لحظتنا هذه أهواء الصهيونية تتم ترجمتها – في عواصم الغرب ومراكز الحكم فيه – إلى قرارات وسياسات وتوجهات ملزمة للغرب، ومن بعده تكون ملزمة للعالم كله، كان الظن – وما زال – هو أن القوةَ تُغني عن الحق والمال بديلًا عن الضمير، والسلاح يكفي لتسوية أعتى العقبات، ولكن صمود المقاومة الشريفة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م حتى نشر هذه السطور في 9 مايو 2024م، ورغم وفرة المال والسلاح من كل عواصم الغرب في خدمة الجيش الإسرائيلي، ورغم تسوية عمران غزة بالأرض، ورغم عشرات الآلاف من الشهداء، رغم ذلك كله لم تفلح القوة ولا المال ولا السلاح ولا الإبادة في إسكات الحق الفلسطيني.

فالعكس هو الذي حدث، وحدث من تلقاء نفسه ودون قصد ولا تخطيط من أحد، الذي حدث هو أن الحق الفلسطيني أنطق ضمير الإنسانية، أنطق ضمائر شباب الغرب ليشهد أن ما يفعله حكام الغرب ليس أقل من جريمة منحطة يندى لها جبين كل إنسان سويّ النفس مستقيم الطبع سليم الفطرة.

لكن يواجهنا السؤال: هل يكفي احتجاج الجامعات لاستدعاء الضمير الغربي الغائب حتى الموت؟ ولو نجح في استدعائه فكيف يتعامل مع الواقع المعقّد على الأرض، حيث تمَّ تهجيرُ، ثم توطين نصف يهود العالم في فلسطين، وفي المقابل تمَّ تهجير نصف سكّان فلسطين منها ؟. يكفينا أن يتمَّ استدعاء الضمير الغربي، حتى ولو في دوائر المثالية الشبابية والأخلاقية الأكاديمية، هذا يكفي في هذه المرحلة من إعادة خلق مناخ دولي متفهم ومتعاطف مع الحق الفلسطيني، هذا في حدّ ذاته كسب كبير، وليس مطلوبًا أن يُثمر على الفور تغييرات عاجلة أو جذرية في سياسات العواصم الغربية الكبرى، يكفي أن يَحدث توقفٌ ومساءلةٌ ومراجعة ونقد ومحاسبة لمسار التحيّز الغربيّ لصالح الصهيونية في المائة والخمسين عامًا الأخيرة.

كسْب ضمائر الشعوب الحرة من شركائنا على ظهر الأرض هو – في حد ذاته – باب مهم من أبواب النضال الفلسطيني المشروع، لقد حدث وانفتح الباب من تلقاء نفسه دون تخطيط ولا جهد مقصود، وبقي أن ننتبه له، ونتقدم فيه، ونكسب مساحات جديدة، ونتمرّن على هذا اللون من ألوان العمل بما يستلزمه من إعادة تقديم القضية الفلسطينية كقضية لكل الإنسانية العادلة الحرّة، وليست فقط قضية لقومية بذاتها ولا دين بذاته ولا إقليم بذاته، قضية شعب لم يبدأ أحدًا بالعدوان، لم يغتصب أرض أحد، لم يظلم شعبًا آخر، قضية شعب ثائر، اغتُصبت أرضه، وأُخرج من دياره، ويتعرض لمخطط طويل المدى لأجل محوه من الوجود وإبادته. كسْب الضمائر هو – من الآن فصاعدًا – أوسع  أبواب النضال الفلسطيني في القادم من الزمن، يلزم كسب ضمائر الأحرار لمحاصرة مثلث: القوة والمال والسلاح الصهيوني – الغربيّ.

تجربة فريدة

اليهود هم أفضل من نتعلم من تجربتهم في هذا النضال، فعندما سقطت غرناطة آخر مراكز الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية 1492م كانت الكاثوليكية المنتصرة تسعى سعيها لاجتثاث اليهود والمسلمين معًا، وعبر ما يزيد قليلًا على خمسة قرون صار يهود العالم – وهم لا يمثلون أية نسبة عددية لها وزن من مجمل سكان العالم، فلا يزيدون على خمسة عشر مليونًا – مكونًا أصيلًا في بنية الحضارة الإنسانية، بحيث بات من المستحيل إلحاق الضرر بهم دون إلحاق الضرر بالحضارة ذاتها.

لليهود – عبر خَمسمائة عام – تجربة فريدة في كسب تعاطف القوى النافذة في العالم، بما يعني أن لديهم تجربة في تحويل قوى العداء إلى قوى تأييد. وخسارة اليهود الكبرى بعد تأسيس الدولة الصهيونية باسمهم ولهم وحصرًا عليهم، هي أن ما تمارسه من عدوانية وحشية بربرية بات يقلب المعادلة، بات يحوِّل قوى التأييد إلى قوى عداء.

نحن في صراع ممتدٍّ، يلزمنا فيه أن نفقَه كيف يفكّر العدوّ ؟ كيف انتقل في خمسمائة عام من رهائن محبوسين في حارات مظلمة مغلقة مهمشة ضيقة قذرة إلى قمّة العالم، حيث لا يجرؤ حكّام أعتى إمبراطورية معاصرة على أن يرفضوا للدولة الصهيونية طلبًا ؟.  السؤال: كيف يفكّرون قبل الصهيونية وبعدها؟ وبالبداهة كيف نفكّر؟ هذا مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الحق الفلسطینی الدکتور أنور من القرن على مدى فی وجه ة التی

إقرأ أيضاً:

الصهيونية.. الأيديولوجيا الرجعية في معرض لعبة الوعي

العالم باتجاه تحولات كبرى.. كلمة السيد القائد الأسبوعية، جرعة وعي ومحرك تغيير الجزء الثالث

 

الموقف اليمني المساند لغزة في كل مساراته عسكريا وسياسيا وإعلاميا وشعبيا، يتربع على منصة إدارته وتوجيهه قائد يدير مسارات التحرك ومتابعتها واتخاذ قراراتها اللازمة وتقييم أدائها وقراءة مفاعيلها وتأثيراتها وتداعياتها بشكل مستمر باعتبارها أولوية عليا ضمن السياق الأساسي وهو معركة محورها القدس وجبهتها الأساسية غزة.
وفي صميم دوره كقائد لهذا التحرك اليمني تأتي كلمة السيد القائد الأسبوعية كعامل أساسي في استمرار وتصاعد وتماسك الموقف اليمني، بل يمكن القول انها أصبحت مسارا هاما ومؤثرا بين مسارات الموقف اليمني لجهة التأثير العالي والمباشر في التداعيات والمواقف والتحركات العسكرية والسياسية والحقوقية والتوعوية إقليميا ودوليا، ولا نبالغ في الاعتقاد أن الكلمة الأسبوعية إلى جانب عمليات الموقف اليمني المتصاعدة، أهم أسرار تصاعد وتنامي دائرة التضامن والتفاعل مع غزة داخل الوعي الجمعي.

الثورة / علي أحمد جاحز

رفح تعري الصهيونية، وتشعل المحور
كان إعلان المقاومة الفلسطينية برئاسة حركة حماس قبول المقترح المصري القطري للاتفاق على وقف النار في غزة، خطوة سياسية ذكية نجحت في جر الكيان إلى فضاء انكشاف جديد لتوجهه وسلوكه الإجرامي أمام الرأي العام والوعي الجمعي الغربي خصوصا، وفي الوقت ذاته وضعت الموقف الأمريكي في وضع محرج أمام المجتمع الدولي، وتركت أثرها في جعل مخطط اقتحام رفح الذي وافق عليه الأمريكي يبدو بلا هدف سوى ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة، ولهذا ظهر الأمريكي من جهة يقدم خطة لإجلاء المدنيين النازحين، ومن جهة أخرى قدم الإشارة لاقتحام ر+فح، ليترك الأمور ذاهبة إلى وجهتين احداهما اكثر بشاعة من الأخرى.
السيد القائد أعطى مساحة واسعة في كلمته الأسبوع الماضي للحدث المتعلق بتحرك الكيان نحو اقتحام رفح، والى جانب تسليط الضوء على الجانب الإنساني المتمثل في كون رفح الملاذ الأخير للنازحين وان اقتحامها سيكون معناه مجازر اكبر وابشع، فإنه وجه رسائل عدة إلى الجانب المصري الذي لم يحرك ساكنا أمام انتهاك سيادته، وبدا السيد القائد في تركيزه على هذا المستجد يراكم معطيات وحيثيات تدعم وتبرر الموقف اليمني، ولعل ضعف الموقف المصري يعتبر فرصة لعبور الموقف اليمني إلى الوعي العام الذي سيجد الفعل اليمني في مرحلته الرابعة موضع ترحيب ويملأ فراغا في ضمير الأمة التي شاهدت بذهول ما حل بالشاب الفلسطيني الذي حاول أن يعبر الحدود مع مصر وتعرض لأبشع ضرب وتنكيل من اخوته الجنود المصريين، وهو مشهد لم يكن يتخيله احد.
وبالعودة إلى خطة نتنياهو التي بات واضحا ان تنفيذها هو غاية مقدسة تحشد في سبيلها الصهيونية العالمية كل اذرعها وأدواتها، فإن إقدام الكيان على اقتحام معبر رفح واحتلال محور فيلادليفيا في انتهاك لاتفاقية كامب ديفيد الموقعة مع مصر، يمكن قراءته باعتباره خطوة باتجاه فصل جديد من فصول المخطط الصهيوني وهو فرض واقع من نوع ما في سيناء، ويبدو موقف النظام المصري أمام هذا الانتهاك مثار تساؤلات وعلامات استفهام وتعجب، صحيح انه لم يعد متوقعا من الجيش الأكبر في المنطقة أن يتدخل عسكريا لمساندة غزة، لكن بقي من المتوقع ان يستنفر عندما يصبح الأمن القومي المصري موضع تهديد.
فهل نجحت الصهيونية على مدى عقود في السيطرة على قرار الجيش المصري وتغيير عقيدته الفتالية إلى هذا المستوى؟ والى أي حد تداوم الصهيونية العالمية منذ النكبة على التهيئة المستمرة لتوسع الكيان في المحيط العربي؟ وماذا يعني طرح حقيقة الأيديولوجيا الصهيونية الرجعية وخلفيات عدائها للامة على طاولة التناول بعد عقود من التغييب؟!
عداء الأيديولوجيا الصهيونية الرجعية.. على سطح لعبة الوعي
كلما طال أمد العدوان كلما اتسع والتهب مسرح المعركة التي يسهم الموقف اليمني في صناعة توازن ردع يحول بين العدو، الذي يوغل في المجازر، وبين تحقيق نجاح عسكري في غزة، وهذا أيضا يساهم في اتساع دائرة انكشاف حقيقة الوجه البشع الإجرامي للصهيونية ليصل ذلك الوعي إلى داخل أوروبا وأمريكا ويتحول إلى تحرك حقوقي واسع يواجه بردات فعل تزيد من انكشاف حقيقة تلك الأنظمة وسقوط شعاراتها الإنسانية والحقوقية، وهكذا تصبح تلك النتائج مدخلات تبرر الموقف اليمني وتضعف الموقف الأمريكي الصهيوني أمامه وتبني عليها كلمة السيد القائد رسائل وعي وسياسة توسع نطاق التضامن والتمرد على الصهيونية، وهكذا في ديناميكية مشهد يذهب باتجاه تغييرات كبرى متسارعة.
من اهم الحقائق التي تم تنظيف الوعي الجمعي العربي والإسلامي على مدى عقود، هي حقيقة خلفيات احتلال فلسطين وقواعد الصراع مع الاحتلال، وخاصة ما يتعلق بالبعد الأيديولوجي كمنطلق للعداء الصهيوني للأمة، حيث أوشكت الصهيونية على ان تنجح في تفريغ الذهنية العربية والإسلامية من الارتباط بجذور القضية الفلسطينية وعلاقتها بالعداء العقائدي الازلي في ثوابت الصهيونية للأمة وما يلتصق به من حقد وكره تجاهها وما يتوازى معه من أطماع في مقدراتها.
وفي هذا الاتجاه عمد السيد القائد إلى تسليط الضوء بشكل مكثف في كلمته الأسبوعية مؤخرا على المعتقد الصهيوني الذي يرتكز على أن اليهود الصهاينة هم شعب الله المختار وإضفاء القدسية عليهم عبر توصيفهم بالسامية وسن تشريعات تحرم مجرد معاداتها، ولعل السيد القائد في مرحلة كهذه يرمي إلى طرح هكذا حقائق وهكذا معتقدات على السطح وأعادتها إلى معرض التناول والنقاش وعرضها أمام العقل المعاصر المتحرر لمحاكمتها، ومن ثم إعادة النظر في فهم حقيقة النظام العالمي الذي تديره الصهيونية وفق أيديولوجيا رجعية هدامة عدائية ليس للامة الإسلامية بل للإنسانية.
كلمة السيد القائد الخميس الماضي تزامنت مع ذكرى النكبة، وهو ما جعلها تبدو فرصة لإثراء الحديث عن البعد المنسي للصراع مع الصهاينة وآخر مظاهره المعركة الجارية، وبرغم ان العداء الصهيوني للامة قديم إلا أن السيد القائد اكتفى بالانطلاق من دور الوصاية البريطانية على فلسطين باعتباره نقطة بداية تأسيس الكيان وباعتبار بريطانيا مهندس النكبة وكانت هي الحامل لمنهجية الصهيونية العدائية ومخططاتها لاستهداف الأمة العربية آنذاك، وكان ضمن مهامها التهيئة لإنشاء الكيان على ارض فلسطين التي كانت تقع في نطاق وصايتها.
فكيف حملت بريطانيا مخطط الصهيونية في فلسطين؟ وكيف كانت التهيئة لإنشاء الكيان؟ وما هو نطاق التهيئة؟
بريطانيا.. مهندس الكيان في جغرافيا مهيأة
لكي نفهم الحكاية كاملة لا بد ان نتتبع الجذور التي تمتد في أعماق تاريخ اوشك على الانطواء في دهاليز النسيان بعد عقود من تغييبه عن وعي الأجيال، واعتقد ان إخراجه وإعادته إلى السطح ووضع الحقائق من جديد على طاولة التناول خطوة مهمة في مسار صناعة التحولات الكبرى والتغيرات الكونية التي عادة ما تبدأ من الوعي وتحريك المواقف وأيقاظ الضمير، وهو ما يشتغل السيد القائد عليه بوعي حامل مشروع التغيير.
الانتداب البريطاني الذي جاء ضمن اتفاقية سايكس بيكو ثم اتفاقية سان ريمو في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم يكن جذر حكاية التحرك الصهيوني لاستهداف الأمة وتهيئتها لنشوء الكيان وإن كان يمثل بداية الخطى العملية لإنشاء الكيان، فالحكاية تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كان العالم العربي والإسلامي يرزح تحت احتلال صليبي متعدد الهويات الأوروبية، وهنا لا بد ان نشير إلى أن الصليبية والماسونية هي مسميات قديمة لنفس الأيديولوجيا التي تتكئ عليها الصهيونية حاليا.
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى لم يكن للامة العربية والإسلامية أي وزن باستثناء اليمن الذي كان بصدد التحرر من الاحتلال العثماني والحجاز الذي كان يتعرض لهجمات السعودة، بينما كانت مصر والسودان وجنوب اليمن وأجزاء من الصومال ترزح تحت الاحتلال البريطاني، واما نجد وسواحل الخليج فكانت تشهد بداية تشكل دويلات تتم صناعتها من العدم بإشراف بريطاني وهي ما تسمى الآن دول الخليج العربي، فيما تتقاسم فرنسا وايطاليا احتلال دول المغرب العربي.
النفوذ العثماني كان قد فقد سيطرته على مصر والشام والعراق عند اندلاع الحرب العالمية الأولى لصالح الاحتلال البريطاني والفرنسي، وخلال الحرب تم وضع العراق والشام على مائدة التقاسم بين فرنسا وبريطانيا في ما تسمى اتفاقية سايكس بيكو، ولسنا بصدد سرد تفاصيل القسمة هنا بقدر ما نهدف إلى تتبع جذور التاريخ التي تتكئ عليها شجرة الحاضر للوصول الى سياق مرتب ومفهوم، والحكاية بتفاصيلها متوفرة ويمكن الرجوع اليها.
بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة أعيد تقسيم العراق والشام بين فرنسا وبريطانيا وفق اتفاقية سان ريمو واعتمدت عصبة الأمم المتحدة وصاية بريطانيا على العراق، وتقاسم الوصاية بينهما على الشام، وكان من نصيب فرنسا الوصاية على سوريا في نطاقها الواسع (الذي أصبح الآن سوريا ولبنان)، وبريطانيا الوصاية على فلسطين في نطاقها الواسع (الذي أصبح الآن الأردن وفلسطين المحتلة)، أما الحجاز الذي كان يقع الحرمين في نطاقه ويحكمه الشريف حسين أو ما يوصف بشريف مكة وهو الجد الأكبر للأسرة الهاشمية التي تحكم الأردن حاليا، فقد وقع في قبضة آل سعود بدعم بريطاني بعد اغتيال الشريف حسين الذي كان قد وقع في فخ خديعة بريطانيا التي نكثت ما يسمى اتفاقية الحسين مكماهون، وبإمكان الجميع البحث عن الاتفاقية وفهم محتواها، وبات أبناؤه عبدالله وفيصل مجرد أدوات للوصاية استخدمتها في العراق والشام ضمن مشروع التهيئة لنشوء الكيان.
إعلان الكيان.. المهندس البريطاني يسلم للراعي الأمريكي
كانت التهيئة لنشوء الكيان امرا سهلا في منطقة عربية مفككة ومحتلة بالشكل الذي لخصناه سلفا، فقد صنعت بريطانيا دولة جديدة صهيونية الغرض في الجزيرة العربية تسيطر على الحرمين الشريفين وتضمن عدم استفادة الأمة من دورهما الديني التعبوي الجامع، ووضعت مصر تحت حكم ملكي موال لها، ووضعت العراق تحت حكم فيصل بن الحسين، وقسمت فرنسا سوريا إلى دولتين، ووضعت فلسطين تحت إشراف عبدالله بن الحسين الأكبر وقسمتها إلى الأردن وفلسطين.
وهذه هي الجذور التي انطلق السيد القائد منها في حديثه عن دور بريطانيا في نشوء الكياه، فهكذا هيأت بريطانيا المنطقة برمتها على مدى عقود قبل الحرب العالمية الأولى، وتركتها في حالة ضعف وحروب وصراعات وتشظ إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية وظهور المخطط إلى العلن من خلال وعد بلفور، ثم بدأت إيفاد اليهود إلى فلسطين من كل أنحاء العالم بما فيه الدول العربية، وتجنيد اليهود في الجيش البريطاني خلال الوصاية وسمحت لليهود التملك للأراضي إلى أن احتلوا الكثير من القرى والمناطق، وكانت هذه بداية الاحتلال، وبدأ الاستيطان، والأعمال الإرهابية والتهجير للفلسطينيين، والتجهيز العسكري لليهود، واضعاف الشعب الفلسطيني، إلى أن اطمأن البريطاني ورحل بعد ان سلمها لليهود ليعلنوا كيانهم تحت اسم دولة إسرائيل ويمارسوا ابشع جرائم الإبادة والتهجير والاحراق والذبح في 1948م، وربما لا يعرف الكثيرون انه تم تقسيم فلسطين إلى الأردن وفلسطين، ثم تقسيم فلسطين بين الكيان الفلسطينيين عام 48 وإعطاء الأردن الأرض الشرقية من فلسطين للأسرة الهاشمية مقابل بيع الأرض الغربية، واما الفلسطينيين فبقيت أرضهم ميدانا لتوسع الاحتلال.
بعد النكبة ظهر دور الولايات المتحدة الأمريكية كراع جديد للكيان حيث اعترفت الولايات المتحدة بعد 11 دقيقة من الإعلان وسبقت بذلك اعتراف الأمم المتحدة، وفي المقابل يتجلى تفريط الأمة في جزء منها وهي دولة فلسطين، وهو ما شجع الكيان على احتلال بقية فلسطين وأجزاء من دول عربية أخرى، وبدأت الأمة تشعر بخطر الكيان الذي جرت زراعته في جسدها، سيما بعد أحداث الاستقلال في الدول العربية المحتلة واهمها مصر وسوريا اللتان دخلتا في حرب مع الكيان.
إن المشاركة الواضحة لأمريكا وبريطانيا إلى جوار الكيان هذه الأيام تذكرنا بالعدوان الثلاثي على مصر من حيث كونهما ينطلقان من ذات القلق الصهيوني الوجودي على الكيان ويتكئان على عقيدة صهيونية عدائية للامة، ولعل الفارق الذي يدركه الصهاينة هذه الأيام بين الحربين والحقبتين، ان المعركة اليوم تتكئ على وعي بجذور الصراع وفهم للعداء الصهيوني للامة، وتنطلق من ثوابت دينية وتقاتل بعقيدة جهادية.
هذا الوعي هو ما يشتغل عليه السيد القائد من خلال تعرية الصهيونية وحقيقتها العدائية وايديولوجيتها الرجعية والتذكير بتاريخها الإجرامي منذ إبادة الهنود الحمر إلى ناجازاكي وهيروشيما وفيتنام وغيرها، في سبيل لفت نظر الوعي الجمعي لهذه الحقائق ومن ثم صناعة رأي عام يتحول إلى مواقف يكبر ليصير حراكا يتنامى ليصنع بدوره متغيرات وتحولات كبرى، وهكذا تسري سنن الله في الإمبراطوريات عندما يحين موعد سقوطها.
والله الموفق والهادي

مقالات مشابهة

  • جريمة استخدام "الضمير الخاطئ"
  • الصهيونية تأريخ عريق في تمزيق القرارات والقوانين والمواثيق
  • الصهيونية.. الأيديولوجيا الرجعية في معرض لعبة الوعي
  • شيخ الأزهر: المجتمع الدولي أصابه الانفصام يمد يده بالمساعدات الإنسانية لغزة واليد الأخرى ممدودة بالسلاح للكيان الصهيوني
  • شيخ الأزهر: العالم أصابه «الانفصام» يمد يد بالمساعدات لغزة والأخرى بالسلاح للكيان الصهيوني
  • الطيب يطالب صناع القرار بالاستماع لأصوات الشعوب الرافضة لجرائم إسرائيل
  • موقع أميركي: ما الهدف الحقيقي للأحزاب الدينية في إسرائيل؟
  • ذمار تشهد وقفات تنديداً باستمرار حرب الإبادة والمجازر الصهيونية في غزة
  • حماس: الاحتلال يواصل هجماته على مخيم جباليا لليوم السابع
  • الشويهدي: خليفة حفتر لا علاقة له بموضوع عرقلة الانتخابات.. والمشكلة كلها في حكومة الدبيبة