عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟! (11)
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟! (11).
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
لماذا يلهث الكاتب العربي خلف القارئ؟
مع التقدّم التكنولوجي صار واضحا أن القارئ لم يعد ذلك الإنسان المجهول في قرية نائية أو مدينة بعيدة؛ فعلى مواقع التواصل الاجتماعي يعلّق على كاتبه المفضّل، ويسأل ويحتج، وقد يقطع صلته به إذا اختلف معه، وبهذا اكتسب سلطة لم تكن له على مدار عشرات السنين!
في هذا التحقيق يجيب كتّاب عرب عن أسئلة تتعلق بتطور العلاقة بين الكاتب والقارئ، والإجابات تطرح زوايا مدهشة جدا كان صعبا تخيل وجودها منذ فترة!
في البداية يعترف الكاتب العماني ناصر صالح بأن مواقع التواصل الاجتماعي أحدثت تغيُّرا كبيرا في علاقة الكاتب بالقارئ؛ فهي أولا كسرت نمط العلاقة التقليدية القديمة التي احتكر فيها الكاتب سلطة الكتابة، والتأثير على القارئ. كما أن هذه القنوات الإلكترونية اخترقت منظومة السلطات الثقافية التقليدية التي شكلها النقاد، ومحررو الصحف، ودور النشر، والمؤسسات المانحة للجوائز الثقافية التي تحدد معايير الكتابة عن الكتب، ومساحات النشر التي تُمنح للكتابة عنها.
وبفضل المنصات الإلكترونية -كما يرى ناصر- تحوَّل القارئ إلى كاتب يعبِّر عن انطباعاته، وآرائه في الكتب التي يقرؤها بشكل عفوي بدون اشتراطات مناهج النقد، أو عوائق امتلاك مهارات الكتابة والتعبير. فالذكاء الاصطناعي التوليدي أصبح مصححا، ومعينا على الكتابة والتعبير؛ ولذلك أصبح القراء في المنصات الرقمية يقيِّمون الكتب، ومستويات جودتها، ويخلقون اتجاهات ودرجات الاهتمام بها، والكثيرون أصبحوا يعتمدون عند اختيارهم للكتب على الصفحات الإلكترونية لتقييم الكتب مثلما يفعلون عند اختيارهم للفنادق، والمنتجات التجارية.
هذا يعني أن القراء في المواقع الإلكترونية -كما يخلص ناصر- أصبحوا بشكل من الأشكال صنَّاع الثقافة، وهذا يعني أن الكثير من الكتاب والمؤلفين أصبحوا واقعين تحت تأثير سلطة وسطوة القراء في المنصات الإلكترونية، بل إن انطباعات القراء عن الكتب، وأذواقهم في اختيار الكتب أصبحت تملي على بعض الكتاب والمؤلفين مجاراة أمزجة القراء وأذواقهم في المواقع الإلكترونية، وتأليف الكتب تحت تأثير الحصول على أعلى درجات التقييم من القراء في هذه المواقع.
الهوس بالقراء
هل ترى الروائية المصرية منصورة عز الدين أن الكتّاب صاروا مهووسين بالقراء بعد ظهور خاصية الإعجاب؟
تؤكد أن مواقع التواصل الاجتماعي غيَّرت كل شيء في حياتنا تقريبا. ابتكرت نوعا جديدا من الصداقة مع أشخاص لم يسبق لنا الالتقاء بهم، وصارت تُشكِّل أنماطا غير تقليدية من الحب السائل والمتطاير الذي يتحايل على المسافات والحواجز، ويتلاشى حضوره بضغطة زر، وموَّهت مفهوم العزلة، ففقد كثيرا من جلاله القديم؛ لذا من الطبيعي أن تعيد صياغة علاقة الكاتب بالقارئ، وتزيل الحواجز السابقة بينهما.
وترى أن مميزات مواقع التواصل الاجتماعي ظهرت في بداياتها؛ إذ وجد الكُتَّاب قنوات مباشرة تطلعهم على آراء قراء بعيدين بدون مجاملات، لكن خلال السنوات الأخيرة، ومع بروز المراجعات القصيرة مدفوعة الأجر وحملات الترويج المُقنَّعة، لم تعد علاقة كاتب بقارئ بقدر ما هي علاقته بمعلنين من نوع ما. توجد طبعا مراجعات تعبِّر عن قناعات القراء بعيدا عن المصالح والمجاملات، لكن يتم التشويش عليها بصخب تجاري. قد يرى البعض أن هذا مفيد في نشر القراءة بشكل عام وفي ترسيخ عادة القراءة، وهذا رأي يمكن تفهمه، لكن هذه الفائدة تضمحل إن خضع الكُتَّاب لهذا الإغواء، وانشغلوا بمطاردة وهم الرواج، حتى لو كان رواجا دعائيا بدلا من الانشغال بصقل تجاربهم ومهاراتهم، والتعبير عن رؤاهم الفنية والجمالية وما يشغلهم من قضايا، وليس وفق ما يظنون أنه قد ينال إعجاب الحشود. تعلق: «لاحظ هنا أنني أستخدم مفردة «الحشود» وليس «القراء»؛ فللقراء المخلصون للقراءة كل التقدير. فهؤلاء تنبع تقييماتهم لأي عمل من رؤاهم الخاصة وذائقتهم، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها».
منصورة تقول: إنه يجب ألا ننسى -في أحيان كثيرة- أن الهوس لا يكون بالقراء أنفسهم، بل بإظهار صورة بعينها لذات الكاتب بحيث يتحول إلى «براند»، والقراء قد يتحولون إلى وسيلة لتحقيق هذا. وتضيف: «كل منَّا قارئ قبل أن يكون كاتبا، وعن نفسي كقارئة أفضِّل أن تكون العلاقة بيني وبين النص، لا بيني وبين كاتبه. وأفضِّل هذا لأعمالي ككاتبة أيضا. لا يُلغي هذا الكاتبَ من المعادلة بطبيعة الحال، لكنه يحوله إلى طيف أو ظل متوارٍ خلف عمله تاركا له الصدارة».
أسألها: على مستواك الشخصي.. هل تضعين القارئ في بالك وأنت تكتبين؟
وتجيب منصورة: «ككاتبة أحترم القارئ وأقدره كثيرا بمعنى الاشتغال على النص والسعي لتجويده قدر الإمكان كي يليق بقارئه، وليس بمعنى تفصيل النص على مقاس القارئ. القارئ في معادلة صحية لا ينبغي أن يكون رقيبا أو «زبونا»، بل محفزا على الإتقان. لا يعني هذا أنني أفكر فيه خلال عملية الكتابة نفسها؛ إذ إنني في هذه المرحلة أنغمس في عالم النص وشخصياته وأسئلته وطموحاته الفنية، لكن في مراحل التنقيح الأخير قد يخطر ببالي رد فعل المفترض للقارئ، وأتمنى أن ينال العمل إعجابه دون مساومات على حساب الجودة الفنية أو الرؤى الجمالية الخاصة بي».
النجاح التجاري
أطرح على الكاتب المصري طارق إمام سؤالا جديدا: هل يمكن أن يصادف الأدب الجاد نجاحا تجاريا؟
يجيب: «أفرِّق دائما بين «كتابة رفيعة تُصادف مبيعات مرتفعة»، وكتابة تجارية، «مصممة» من حيث المبدأ من أجل الرواج الجماهيري. هناك كتاب جيدون، يكتبون من داخل إطار أدبية الأدب، وتحقق أعمالهم مقروئية عالية، لكن السبب يكون في الغالب إما جائزة كبرى يُسبب الفوز بها مباشرة رواجا (وهي في حالة العالم العربي جائزة البوكر بالتحديد)، أو لطبيعة شائكة أو جدلية في هذا العمل أو ذاك. في هذه الحالة يصيب النجاح الاستثنائي «العمل» لا «الكاتب» بمعنى أن الرواية التالية مباشرة للكاتب نفسه يمكن أن تمر جماهيريا مرور الكرام إلا لو استكمل هذا الكاتب الحفاظ على المقروئية بفعل قدرٍ من التراكم والقدرة على الحضور. يختلف هذا تماما عن الكاتب الذي يكتب نصا تتوفر فيه من حيث المبدأ شروط المقروئية السهلة: كتابة أولية بسيطة في رسالتها وأسلوبها، مقلمة فلا تشتبك مع التابوهات الحرجة ولا تريد، وتنتمي لأنواع بعينها مثل أدب الرعب والفانتازيا التجارية وكتب الألغاز، ومؤخرا الروايات التاريخية البسيطة التي لا تشتبك مع التاريخ، وإنما تقدمه كسندوتش بسيط مؤلف من نوستالجيا ساذجة مركزها قصة حب أو كفاح».
أسأله مجددا: أنت تكتب أدبا رصينا، ومع ذلك أصبحتَ كاتب «بيست سيللر».. كيف حققت تلك المعادلة؟
يقول: «سأكون صريحا للغاية معك، أرتابُ في الأعمال التي تحمل لافتة «الأعلى مبيعا» وعلى الأغلب لا أشتريها إلا لو عندي معرفة سابقة باسم كاتب «جاد»، (وعفوا لأن كلمة جاد صارت مكروهة وكليشيهية، لكن في الحقيقة هناك كاتب جاد وكاتب سطحي). وحتى مع اعترافي أنني «نلت من الحب جانبا» برواج بعض كتبي شعبيا، لا تمثل لي تلك اليافطة حين أنتقل إلى مقعد القارئ، سوى تنفير وتشكك مبدئي، ليس فقط لأن التلاعب قائم عند بعض الناشرين لتكريس عناوينهم إعلاميا، لكن -وهذا هو الأهم- لأني أعرف أن الأعمال التي يُتفق عليها قرائيا خلال وقتٍ قصير برواج استثنائي هي في الغالب نصوص رديئة تجارية خفيفة، وفوق ذلك «جبانة» فلا تشتبك مع ما يمكن أن يثير القاعدة العريضة من تابوهات سواء سياسية أو جنسية أو دينية. وسأكون صريحا أكثر فأعترف أنه حين تشمل بعضُ هذه القوائم كتابا لي، أنشر الخبر على وسائل التواصل بنفعية كاملة للتخديم على الكتاب، وليس سعادة أو افتخارا، فعدد من أفضل وأهم رواياتي ما زال يتحرك في حدود مقروئية متوسطة، ولم يستفد من النجاح الاستثنائي لبعضها الآخر إلا بقدر محدود».
هل يعني ذلك أن نكتب أدبا لا يقرؤه أحد؟ يقول: «بالتأكيد لا؛ فسؤال التواصل جوهري في النص الفني، لكني لا أصدق أن عملا يصل إلى طبعته الخمسين في شهر أو شهرين هو عمل يقدم جديدا؛ لأن الجديد ببساطة غير مألوف، وصعب، وشائك، وغامض، وأحيانا مستهجن، وهي عناصر يستحيل معها على كاتب «مجرب» أن يجد نفسه كاتبا «رائجا» بين عشيةٍ وضحاها. نعم ذقت «عسل» الرواج في عدة كتب مثل «ماكيت القاهرة» و«هدوء القتلة» و«مدينة الحوائط اللانهائية». وهذه العناوين التي ذكرتها أحب أن أتعامل مع نجاحها التجاري الاستثنائي مقارنة ببقية أعمالي، كمصادفات سعيدة لا تعني في الحقيقة أي شيء».
يلفت طارق إمام إلى أن ماركيز وبول أوستر ومارجريت أتوود وكويتزي ونجيب محفوظ كُتَّاب رائجون ويحظون بمقروئية كبرى، لكنهم بكل تأكيد أقل مقروئية من أجاثا كريستي وستيفن كنج ودان براون وأحمد خالد توفيق. ويخلص إلى تلك النتيجة: هناك «كاتب رفيع مقروء لحسن الحظ»، وهناك «كاتب تجاري ناجح بالضرورة». وفي العالم العربي نجاح نص أدبي رفيع بما يتجاوز «النجاح المتوقع» يحتاج إلى قدرٍ وافر من حسن الحظ والظروف الداعمة.. والصدفة.
يختم طارق كلامه بالحديث عن تجربته الشخصية: «كل أدب «جديد» هو في جوهره خطابٌ مناوئ لمفهوم القراءة السائد، وليس استجابة له، وهذا نفسه ما ينطبق على رواية مثل «ماكيت القاهرة» -أكثر رواياتي رواجا-. ورواج هذه الرواية تحديدا فتح عليَّ -وعلى عديد المهتمين- بابًا للتساؤل نتج عنه تلمس تغيُّر في الذائقة بظهور جيل من المتلقين الجدد صغار السن تُمثل لهم «الرواية الذهنية، المعقدة» -هذا المصطلح سيئ السمعة- فتنة رهيبة، ربما لأنها تواكب تعقيد المتع التي يبحثون عنها في عوالم التكنولوجيا الحديثة. بالمناسبة؛ أكثر سؤال تلقيته في مقابلات صحفية وتلفزيونية خلال السنوات الأربع الفائتة يخص سر رواج «ماكيت القاهرة» اللافت رغم أنها رواية تجريبية وصعبة. كانت إجابتي: صدفة.. واعتبرتُ هذه الإجابة أكثر لياقة بقليل من إجابتي الحقيقية: لا أعرف».
استيعاب التغيير
الكاتب السعودي عبدالله الدحيلان يجيب عن سؤال مختلف: ماذا يميز قارئ الخليج عن بقية العالم العربي؟ وما النوع الأدبي الذي يجذبه أكثر؟
يؤكد أن القارئ في الخليج من خلال نشأته وتكوينه هو امتداد للثقافة العربية عموما، فهو صدى لها في تفاعلاته، سواء على مستوى القراءة أو الكتابة، ما يصعب معه فصل هذا العمق والامتداد عن هذا السياق. ويمكن ملاحظة ذلك عبر رصد تحولات عامة في سوق الكتاب الأدبي العربي، حيث سيطرت لعقود دواوين الشعر بكافة أنواعه، سواء العمودي أو الحر أو التفعيلة، وصولا إلى شعر النثر، ثم زاحمت المجموعات القصصية فترة قليلة في سوق النشر، قبل أن تضع الرواية بصمتها حتى اليوم.
يستنتج الدحيلان أن القارئ في الخليج استوعب هذه التغيرات وقام بمواكبتها بالتوازي مع القارئ العربي عموما، إلا أن اللافت كان الحرص المبالغ على مستوى الطباعة وجودة المنتج النهائي، وذلك من ناحية الغلاف والصف والتصميم، حتى بات بعض الناشرين يدركون ذلك ويتعاملون على أساسه مع الكتَّاب القادمين من هذه الأقطار العربية تحديدا؛ مع الأخذ بالاعتبار بأن الاهتمام بجمالية المخرج النهائي تطور بشكل عام في سوق النشر العربية.
تجربة شخصية
أسأل الكاتبة العمانية ليلى عبدالله: ما أجمل رسالة تلقيتها من قارئ وما أغرب رسالة؟
تجيب: لعل ألطف ما قالته لي قارئة مجهولة لا أعرفها، بعد أن قرأت روايتي «دفاتر فارهو»، في رسالة على الماسنجر: أرجوكِ اكتبي الكثير من الروايات. أنت كاتبة روائية حقيقية.
ولكن أغرب ما وصلها، كان من قارئ سعودي في أواخر الخمسينيات من عمره، قرأ كتابها «رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن» وحين قابلتْه مصادفة في معرض الشارقة للكتاب منذ سنوات، جاء وعرَّفها بنفسه وفي نيته الحصول على نسخة من مجموعتها القصصية «كائناتي السردية» - الصادرة حديثا آنذاك - وكانت في الدار توقع نسخا منها لقراء عابرين. تقدَّم هذا القارئ إليها حيث انهمكت في ركن التوقيع، قائلا لها باندهاش: أنتِ ليلى عبدالله؟ وحين أجابته أكمل قائلا: هل تعرفين، بعد مطالعة كتابك «رسائل حب مفترضة» اعتقدت بأنك كاتبة كبيرة في السن، لكنك ما زلتِ شابة. يا إلهي، من أين استقيتِ تلك التجارب والقراءات الثرية؟!
القارئ المجهول
كيف كانت الكاتبة البحرينية ليلى المطوع تنظر لفكرة القارئ المجهول قديما وكيف أصبحت تلك الفكرة بعد ظهوره مع عالم السوشيال ميديا؟
تقول: «كان القارئ حاضرا من خلال المواقع الإلكترونية، المدونات، الفيس بوك، فجيلي من الكتاب تعامل مباشرة مع القارئ، أي أنه لم يكن مجهولا بشكل كامل وكان حاضرا حتى ولو من وراء اسم مستعار»!
تتذكر ليلى حين وضعت غلاف روايتها الأولى «قلبي ليس للبيع» على موقع جودريدز وتابعت التعليقات بسعادة وحماس، هذا التواصل الإيجابي في رأيها يمنح الكاتب الرغبة في الاستمرار، تعلق: «طالب القراء بجزء ثانٍ من الرواية، ، لو سايرت رغباتهم لما تغيَّرت طموحاتي الأدبية، رأي القارئ مهم لكن يجب على المبدع ألا يكتب وفق الطلب، هذا أمر ألحظه كثيرا في الأعمال المنشورة، حيث اتجه بعض الكتاب إلى كتابة أعمال قصيرة جدا نزولا على رغبة القراء، كما اعتمد بعضهم اللغة البسيطة والموضوعات المستهلكة لكسب شريحة أوسع، وهذا أمر مؤسف».
الشريك الصامت
كيف كانت فكرة الكاتبة الفلسطينية صباح بشير عن القارئ قبل أن تمتهن الكتابة وهل تغيرت الآن؟
تجيب: «كان يمثل كيانا ساميا غامضا، وأتخيله شريكا صامتا في عملية الخلق، مستقبلا للنص بوعي عميق، لكنه يبقى في محيط من السرية النبيلة، كان أشبه بالصندوق الأسود الذي يستقبل الإرسال، وتأثيره يُقاسُ بأثر العمل الأدبي العام في المجتمع، وليس بتعليقات فردية مباشرة. أما الآن، فقد حدث تحول جذري وعميق، فالقارئ لم يعد كيانا غامضا، بل أصبح شريكا حقيقيا وفعالا، لقد خرج من ظلام الصمت إلى نور المناقشة الفورية، ولم يعد قارئا وحيدا؛ بل هو جمهور متصل، يشارك برأيه، ويسأل عن نوايا الكاتب، بل وأحيانا يحتج ويقترح»!
هل تهتمين بقراءة انطباعات القراء؟ تجيب: «بالتأكيد، فأنا أولي انطباعاتهم عناية بالغة، ليس من باب البحث عن التقدير الشخصي، بل لأنها تمثل الصدى الحي للنص، القارئ هو المراقب الأخير للعملية الإبداعية. أما بخصوص التفاعل معها، فالأمر يتطلب حكمة ورصانة.
هل يسعدك المديح وهل يضايقك النقد السلبي؟ تقول: «المديح بلا شك يسعد الروح لأنه يؤكد أن الجسر الذي سعينا لمدهِ بين الذات المبدعة والمتلقي قد اكتمل بنجاح. لكنني أتعامل معه بحذر، فلا ينبغي أن يكون الهدف الأسمى للكاتب؛ حتى لا يتحول الإبداع إلى سعي لإرضاء الجمهور بدلا من التعبير الصادق. أما النقد السلبي البناء، فلا يضايقني بالمعنى المباشر، بل أراه ضرورة إبداعية. النقد البناء، حتى لو كان قاسيا، هو مرآة حقيقية قد تكشف نقاط ضعف غابت عن عيني الكاتب، لذلك أستقبله كهدية ثمينة، وأسعى لتحليل مغزاه، أما النقد الهدام، غير الموضوعي أو الهجوم الشخصي، فأتعامل معه بـحياد عاقل؛ إذ يجب على الكاتب أن يمتلك مناعة نفسية وفكرية تمكنه من التمييز بين رأي يستحق التوقف عنده، وبين ضوضاء عابرة لا ترقى لمستوى النقاش».
باتجاه الشعر
الإجابات السابقة ركزت أكثر على الرواية باعتبار أنها لروائيين ولذلك أردت الاتجاه للشعر، حيث سألت الشاعرة والمترجمة السورية الكندية جاكلين سلام عن علاقتها كشاعرة مع الجمهور فقالت: «أكتب الشعر لأنني أريد أن أبني جسرا بيني وبين قارئ مجهول الهوية ويتقاطع معي في أنشودة الحياة وصراعاتها. فالشعر شأن شخصي وعام ويحمل معرفة وجماليات ومتعة».
حين بدأت جاكلين النشر وهي في كندا، كان تواصلها مع القراء عبر البريد الإلكتروني. كانت تفرح حين يصلها من القراء الغرباء كلمة عن قصيدتها. وقد جمعت بعض الإيميلات الخاصة وطبعتها لأنها تعطيها الأمل، خاصة أنها تعيش في جغرافيا بعيدة عن الشارع العربي وقلما التقت شخصيا بالوسط الثقافي في الشرق. كما سعدت حين علمت أن قصائدها صارت مادة لدراسة نقدية في جامعة جزائرية، والدكتور الذي أشرف على الدراسة تعرف على قصيدتها من خلال هذه الشبكة الإلكترونية.
تعلق: «اليوم مع منصات التواصل الاجتماعي ما زلت أستمتع بهذه العلاقة الندية والمرتبكة بين الشاعرة والمتلقي المجهول. أما بالنسبة للنقد الجاد فهو متقاعس قليلا. لقد وصلني من نقاد بعض الانطباعات عن قصائدي، أحدهم قال: استمتعت بديوانك ولا أعتقد أن لديَّ شيئا أضيفه إلى هذه الكتابة الباذخة والمختلفة»!
كيف ترين علاقة الشعر بالجمهور؟ هل كلما انفتح على الناس كان فنيا أقل؟
تؤكد جاكلين سلام أن علاقة الشعر بالجمهور كعلاقة المستمع بالأغاني العاطفية والوطنية، للأسف. الذائقة الشعرية ليست جيدة دوما. وأغلب القراء ليسوا على وعي بقصيدة النثر بمستجداتها التي لا تحب التصفيق والصوت العالي. القراء لا يزالون يفضلون الشعر المقفَّى والغنائي والبسيط والمنبري، وقصيدة النثر تختلف في عالمها التأملي متعدد الطبقات. وتحديدا في زمن السرعة الجنونية وتيك توك ومنصة إكس.
وتلفت إلى أن منصات التواصل الاجتماعي إيجابية من جهة تسهيل التواصل مع القراء، ولكنها فتحت نافذة لما ليس شعرا ليكتب وينشر ويتم الثناء عليه من باب المجاملات المتبادلة بين الأصدقاء.
وتضيف: «كي نقول عن أي كتابة، أنها شعر، يجب أن تتوفر أولا الفنية والدهشة والحداثة والأسلوب والغنى الروحي. وحين تنحدر هذه المهارات يفقد الشعر سبب تفرده. ولكن، عربيا، كي تصل يجب أن تكون سطحيا ومثيرا وبهلوانا أحيانا. وليس بالضرورة أن يقرأ الجميع الشعر. هناك من يحب تسلق الجبال والغرق في الروايات الجنسية وكتب الطبخ والسحر والجن وما شابه».
القارئ المثالي
الكاتبة السورية غنوة فضة: تجيب بدورها على سؤال ماذا يعني غرق الكاتب في محاولات إرضاء القارئ؟ تقول: «يعني تطويع الفن، وترويض الأدب. وهذا يخالفُ طبيعة الفن الذي يفيض على التخوم المرسومة، وأقصد الفن الرافض، وغير المتحيز، وأيضا المتمرد على ما هو شائع.
تسأل نفسها: هل نرمي بأثقال التسطيح على التكنولوجيا أم على مستخدميها؟ وتجيب: «بالطبع لا علاقة لها بالتقليل من شأن الثقافة وتقزيمها. المتلقي يبقى جوهر المشكلة».
تتساءل مجددا: هل باتت الرواية الضخمة اليوم رائجة؟ وتقول: «أعتقد أننا في عالم يلهث نحو الإنجاز والظهور، أصبحنا نرى قراء يفضلون ما يتسق مع نوع عالمهم وسرعة جريهِ نحو النمو والثراء والوفرة. قد يقضي الكاتب أعواما في تشكيل نصه، يقتطع ويضيف ويشذب، فهل تقيمه قراءة اختزالية ونفعية؟ هذه أسئلة تُطرح حيال القراءة، وتندرج على موجات الكتاب الطارئة أيضا، لذا من الضروري تعريف قارئ اليوم، ذلك أن صورتهُ الأكثر إقناعا، وأقصد بورخيس، القارئ الذي عرفناه جميعا، وهو يحاول فك الحروف في كتاب ملتصق بوجهه، ويجلس وفق نظرة ثاقبة على صفحة مفتوحة؛ هذا القارئ صار وجوده نادرا. ويمكننا القول ختاما، إن الأدب يأخذ بالحسبان وظيفة للقارئ، ولكن القارئ-الضمني أو المثالي الذي يُحفز الخيال الأدبي للمضي بعيدا في استقصاء العالم».
السؤال الأكبر
أجاب المشاركون في التحقيق عن أسئلة متنوِّعة حول العلاقة بين القارئ والناشر، لكن الأسئلة تبقى مفتوحة، فكل يوم هناك تطور جديد في التكنولوجيا، وما يبدو صعبا اليوم يصبح حقيقة غدا، وبذلك فإن فكرة القارئ نفسها قابلة للتغيُّر والتجدد، كما أن هناك سؤالا كبيرا يطرح نفسه: هل يمكن أن يتجه القرَّاء إلى الكتابة ليزاحموا كتَّابهم المفضلين؟!