لجريدة عمان:
2025-11-15@17:09:23 GMT

مذكرات أميرة عربية.. استعادة نص قديم

تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT

لو وضعنا قائمة لأهم عشرة كتبٍ ألفها عمانيون، بالمعنى الثقافيّ الأرحب لانتمائهم، لوجدنا بلا تردد عنوانَ كتاب سالمة بنت سعيد بن سلطان «مذكرات أميرة عربية» يحتلُ موقعه في القائمة. أما معيار الأهمية التي يُعنى بها هذا التصنيف فيتعلق حصرًا بحجم الانتشار والتداول بالقراءة والتعليق، إن حيَّدنا جانبًا الموقف النقدي النهائي ورأيه في قيمة الكتاب، سواءً قرأناه سيرةً أدبية أو وثيقةً تاريخيةً شاهدة على الزمان والمكان.

وللمترجم العراقي عبدالمجيد القيسي يذكرُ فضل التلقي الأول لمذكرات الأميرة العربية بين القراء العُمانيين والعرب، حين صدرت ترجمته في ثمانينيات القرن الماضي عن وزارة التراث القومي والثقافة -كما كانت تُسمى. زمن طويل مرَّ قبل أن ينفتح النص لترجمة عراقية أخرى قدمتها سالمة صالح، تبعها زاهر الهنائي بترجمته المنقحة والشاملة للأجزاء الثلاثة عن الألمانية والتي صدرت قبل سنوات عن دار الجمل. ترجمات الكتاب تشهد على أهميته وصمود مقروئيته بين أجيال متفاوتة من القراء العُمانيين بوجه خاص، فما زال الكتاب يتمتع بجاذبية قلما تحققت لكتابٍ عماني بهذا التواصل على مدى أكثر من أربعين عامًا. ويكفي أن نتصفح المراجعات المنشورة عنه في موقع «Goodreads» لندرك أن تلك المذكرات لا تستقطب قراءً عمانيين وعربًا فقط، بل الكثير من القراء الأجانب القادمين من لغات شتى تُرجم إليها الكتاب، وبمن فيهم بالتأكيد الألمان الذين كتبت إميلي رويته مذكراتها بلغتهم.

وأزعم أن القراء العمانيين يعرفون هذا النص إلى حد كبير، فحتى من لم يقرأه منهم فلا شكَّ أنه يعرف على الأقل بعض تفاصيل الحكاية المؤثرة التي قادت ابنة السلطان من طفولة القصر المترفة إلى المنفى الحزين في ألمانيا، حيث باغت الموت زوجها العشيق فوجدت نفسها وحيدة مع ثلاثة أبناء.

ونادرة هي الحكايات المودعة في الكتب التي تتحول مع الوقت بفضل قُرائها إلى مرويات شفهية، سوءًا كانت سِيرًا حقيقية أم نسجَ خيال روائي، وأحسب أن المذكرات التي تركتها سالمة بنت سعيد واحدة منها؛ فقد خرجت الحكاية عن سلطة النص المكتوب إلى تداول شفهي مسافر، حتى بات حضورها في الذاكرة العُمانية الحديثة أقرب إلى مرويات ألف ليلة وليلة، لا سيما وأنها تشتمل على العناصر التقليدية للتفاعل الدراميّ، المذكرةِ بحكايات التراث الأسطورية؛ كالحب والحرب والبحر والصراع على السلطة في القصر، وصولًا إلى مأساة الموت في الغربة.

ومع أن اختزال ذلك التدوين النسويّ المُفصَّل بدقةٍ مضنيةٍ تسبغُ على الزمان والمكان ملامحه، قبل إعادة إنتاجه شفهيًا كمجرد حكاية تراجيدية لمؤلفته، هو اختزال مفسد لفعل القراءة كما يجب القول؛ إلا أننا ندرك في الوقت عينه سحر الحكايات وفتنتها في السرد الشفاهي، كما ندرك ميلنا «الفطري» الدائم للوقوع في شرَك الحكاية على حساب المتن الأصلي للنص المكتوب، على قاعدة أن الأشياء ليست سوى حكاياتها في نهاية المطاف. فقد استمعتُ في طفولتي إلى ملخص حكاية السيدة سالمة على لسان أمي. ولكن ما لم يكن متوقعًا أن سردها المشوق للمغامرة الجريئة، بما فيه من مبالغات حتَّمت الحذف والإضافة، سيتملَّكني متحكمًا بمخيلتي حتى وأنا أقرأ النص المكتوب بعد سنوات عديدة من تعرضي لتلك الحكاية لأول مرة على طريقة أمي في السرد قبل ساعة النوم. أذهلتني هذه المفاجأةُ، وقادتني للتفكير مليًا في سطوة الانحيازات التوكيدية للذاكرة أمام النص، والتأمل في الالتباس الناجم بين الشيء وصورته، بين الإشاعة والخبر، وبين الشفهي والمكتوب.

من المهم بمكان أن نتأمل بطريقة استرجاعية -كما في الأفلام- الجاهزية الثقافية التي كانت ومناخَ التلقي العام مع دخول الكتاب إلى موائد القراءة والنقاش في غمار تحولات مهمة كانت تشهدها عُمان خلال ثمانينيات القرن الماضي. إذ كان العُمانيون آنذاك قد قطعوا شوطًا كبيرًا نحو مستقبل البلاد في مرحلتها السياسية الجديدة. ورغم التطلع الحالم نحو المستقبل، لم تخلُ المرحلة العُمانية تلك من تلفُّت حذرٍ نحو الماضي، نحو تلك المناطق المأساوية والغامضة من الذاكرة بصورة خاصة، المسكونة بأشباح واحدة من أبشع مذابح التطهير العرقي خلال القرن العشرين، تلك التي وثقتها كاميرا المصور الإيطالي عشية الخروج المأساوي من شرقي أفريقيا عام 1964. كما لم تخلُ مرحلة الثمانينيات أيضًا من أشواق تاريخية وثقافية للأماجد القديمة، تزامنت مع تبلور الهُوية الوطنية التي أشرفت الدولة على صناعتها عبر البث الإعلامي ومناهج التعليم، ورافقتها بمشاريع لكتابة التاريخ في صورته الرسمية، ومشاريع كُرست لإعادة إنتاج الماضي المُنتقى. كان الماضي الشارد في الزمن جاهزًا للترميم ومعدًا بكل ما يلزم لاستقبال البعثات الأثرية، فرُممت الكثير من المخطوطات، ونهضت القلاع والحصون من جديد، وشرعَ العُمانيون يكتشفون تدريجيًا معنى السياحة المحلية في ربوع بلادهم، وكان المتخيل ينمو ويتطور بموازاة نمو الواقع وتحولاته.

وفي مجتمع لم يتسن له بعد التصالح مع الماضي نتيجةً لتوالي الأحداث السياسية وسرعة التحولات التنموية، دخلت سردية السيدة سالمة عن زنجبار وسيرة الوجود العُماني فيها، فأربكت التصورات السائدة عن حقبة مهمة في التاريخ العُماني، تلك التصورات المحافظة التي انعكست ظلالها على الترجمة الأولى كما تُلمح سالمة صالح في مقدمتها إلى ترجمة القيسي. لكنها فتحت في الوقت نفسه نافذة للمقاربة الطللية على أفول الشمس العربية عن تلك السواحل. أما اليوم، وبعد مرور أربعة عقود على تداول مذكرات الأميرة، فقد بات من الضروري تجاوز القراءة الطللية للتنقيب في النص عن إجابات جديدة حول أسئلة مفتوحة عن رحلة العُمانيين خلف الرياح الموسمية وسيرتهم في الأرض.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ألمانيا تسجل ارتفاعاً بنسبة الإفلاس خلال الشهر الماضي

ألمانيا تسجل ارتفاعاً بنسبة الإفلاس خلال الشهر الماضي

مقالات مشابهة

  • عاجل: بعد حصول أميرة القبّاع عليها.. 5 معلومات عن جائزة Aspiring Teen Award
  • استعراض سبل تعزيز التعاون بين جائزة الكتاب العربي والمؤسسات الثقافية السعودية
  • عاجل: أول سعودية تتوَّج بـ “Aspiring Teen Award”.. أميرة القبّاع تروي لـ "اليوم" قصة إنجازها الاستثنائي
  • الجيش السوداني يعلن استعادة السيطرة على منطقة كازقيل شمال كردفان
  • ألمانيا تسجل ارتفاعاً بنسبة الإفلاس خلال الشهر الماضي
  • دواء قديم لعلاج النقرس يظهر فعالية جديدة في الوقاية من أمراض القلب
  • دول عربية بينها اليمن ضمن أسوأ البلدان في العالم التي تواجه المجاعة
  • إسرائيل: لم نتلق حتى الآن أي إخطار رسمي بشأن استعادة رفات الليلة من غزة
  • نقابة المعلمين ترفع دعوى ضد الوزير المكلف علي العابد بتهم فساد في ملف الكتاب المدرسي