ترجمة: أحمد شافعي -

في قمة الولايات المتحدة وآسيا الوسطى الأسبوع الماضي، أعلنت كازاخستان أنها ستصبح أول دولة من آسيا الوسطى تنضم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، وهي اتفاقية التطبيع التي توسطت فيها الولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الأولى بين إسرائيل ودول عربية وإسلامية.

يمثل هذا القرار إنجازًا للسياسة الخارجية في إدارة ترامب الثانية.

كما أنه يؤكد توقعًا سابقًا مفاده أن كازاخستان، المرشحة الأرجح من دول آسيا الوسطى للانضمام إلى الاتفاقيات، قد تنضم فعليًا لضمان منافع دبلوماسية من واشنطن.

وهذا تحديدًا هو المنظور الذي يستغله بعض المحللين الغربيين؛ إذ صرح جوزيف إبستاين، مدير مركز توران للأبحاث في معهد يوركتاون بواشنطن، لإذاعة أوروبا الحرة/راديو ليبرتي، أن هذه الخطوة التي تخطوها كازاخستان قد تبدو خطوة رمزية، غير أنها، قد تكون ذات ثقل دبلوماسي إذ «يمثل قرار - العاصمة الكزاخستانية - أستانا بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية بداية مرحلة جديدة، تتحول فيها الاتفاقيات من مبادرة سلام في الشرق الأوسط إلى تحالف موال لأمريكا، مؤلف من البلاد الإسلامية المعتدلة، ملتزم بأفكار التسامح والازدهار».

غير أن تأويل هذه الخطوة من خلال عدسة سياسات الشرق الأوسط أو تكوين «تحالف موال لأمريكا» يغفل الغرض الاستراتيجي الكامل للخطوة. فليست الاتفاقيات الإبراهيمية سوى أداة في يد أستانا لتنويع تبعياتها الجيوسياسية بعيدا عن موسكو، وترسيخ علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة. والنظر إليها باعتبارها بداية تكتل جديد ذي طابع أيديولوجي يسيء فهم الطبيعة البرجماتية القائمة على المصلحة الذاتية، وهذه هي طبيعة حسابات كازاخستان.

مسرح مزدحم لا دور فيه لكازاخستان

قد يرى مؤيدو توسيع الاتفاقيات أن انضمام كازخستان جزء من استراتيجية أوسع لتأسيس تحالف جيوسياسي جديد ضد إيران. لكن هذه الحجة تنهار عند التدقيق عن كثب في واقع آسيا الوسطى.

فليس لإيران نفوذ يذكر في كازاخستان، ولا يشترك البلدان في أي حدود (باستثناء الاستخدام المشترك لبحر قزوين، بجانب روسيا وأذربيجان وتركمانستان)، والتجارة بينهما محدودة.

ومعظم الخطر الإسلامي الذي تستشعره أجهزة الأمن في أستانا ينبع من التطرف السلفي ونفوذ طالبان، وكلاهما ظاهرة سنية متجذرة في الخليج وأفغانستان، لا في إيران الشيعية.

ولعل من حسابات إسرائيل أيضا أن تبعد كازاخستان وبلادا أخرى في آسيا الوسطى عن توثيق الارتباط بتركيا، وهي منافس آخر، وليس إيران فقط. ولكن هذه مناورة بعيدة المدى ومحاطة بالشكوك، إذ تعزز أنقرة علاقاتها مع الدول السنية التركية في آسيا الوسطى من خلال مؤسسات من قبيل منظمة الدول التركية. وتصوير انضمام كازاخستان على أنه حجر زاوية في تحالف جديد مناهض لإيران أو تركيا هو بمنزلة فرض إطار شرق أوسطي على واقع آسيا الوسطى، وهذه قراءة خاطئة تماما للمشهد.

والحقيقة أوضح وأكثر مباشرة: وهي أن كازاخستان تفتقر إلى الشبكات والخبرة والمصداقية والقوة ـ سواء الناعمة أو الصلبة ـ اللازمة للعب دور فعال في الساحة الدبلوماسية الشرق أوسطية المزدحمة. فليسل لها ما لتركيا أو إيران من النفوذ التاريخي، أو ما للمملكة العربية السعودية من السلطة الدينية، أو ما للإمارات العربية المتحدة وقطر من النفوذ المالي. وبالنسبة لبلد حرص على تجنب التورط في الصراعات الخارجية، فإن الإيحاء بأنه يسعى إلى الحصول على حصة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أمر غير معقول. وقد أقر الرئيس توكاييف نفسه بهذه النقطة إذ اعترف لإيشان ثارور من صحيفة واشنطن بوست بأنه لا يتوقع أي «نتائج عملية» من الاتفاقات. كما وصف الخطوة بأنها «إسهام متواضع»، وهذا الوصف يمثل دماثة دبلوماسية تعترف بالواقع.

وبرغم هذا، يمكن أن تعتبر إسرائيل انضمام كازاخستان نجاحا نسبيا. ففي حين أنه في المقام الأول لفتة لواشنطن، إلا أنه يظهر مرونة دبلوماسية. فعلى الرغم من تجميد الاتفاقات الأصلية وبقاء الجائزة الكبرى ـ أي الاتفاقية مع المملكة العربية السعودية ـ بعيدة المنال بسبب الحرب في غزة، لم تخرج أي دولة من إطار العمل الإبراهيمي. وانضمام عضو جديد يظهر أن هذه البلاد لا تزال ترى فائدة ملموسة في الحفاظ على العلاقات مع إسرائيل، برغم تنامي الانتقادات لأفعال إسرائيل في الشرق الأوسط وخارجه.

الجمهور الحقيقي: واشنطن وموسكو

يكمن التفسير الحقيقي لخطوة كازاخستان في تحول دقيق طرأ على دبلوماسية القوى العظمى. فعلى مدى سنوات، كان التعامل مع آسيا الوسطى مؤطرا في كليشيه «اللعبة الكبرى» ـ وهي رقعة شطرنج لفائز واحد، تتواجه فيها واشنطن بموسكو وبكين.

في قمة قادة آسيا الوسطى، اختلف نهج واشنطن بشكل ملحوظ. ففي خروج على الممارسات السابقة، لم تركز القمة على وعظ قادة آسيا الوسطى بالقيم أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان. كان هذا تصرفا دبلوماسيا ذكيا. وقد كان هذا الحديث عن القيم ـ تاريخيا ـ يثار على نحو سطحي، دون متابعة أو التزام جاد، بما يجعله غير فعال من منظور القيم والمصالح.

غير أن الأهم من ذلك هو أن المسؤولين الأمريكيين لم يضغطوا على دول آسيا الوسطى للانحياز إلى طرف.

وهذا الضبط المقصود أتاح لأولئك القادة المرتبطين بروسيا والصين بما يطلق عليه المراقب الإقليمي المخضرم بيتر ليونارد «روابط اقتصادية وبنية أساسية راسخة»، مساحة سياسية للتواصل مع الولايات المتحدة دون تحدي موسكو أو بكين تحديا علنيا.

وقد اغتنم توكاييف، الدبلوماسي المخضرم، هذه الفرصة بلمسة من الحنكة السياسية البرجماتية.

فالانضمام إلى الاتفاقيات الإبرهيمية إشارة زهيدة التكلفة عالية العائد. لقد أقامت كازاخستان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1992. ولا تشترط الاتفاقيات أي التزامات أمنية جديدة، وكما أكد توكاييف، فإن قرار الانضمام إليها «حازم تماما ولا رجعة عنه». وعندما سئل عما إذا كان ضم الضفة الغربية أو طرد سكان غزة كفيلا بإلغاء القرار، كان جوابه قاطعا: «لن يحدث أمر خطير أو رهيب فيدفعنا إلى تغيير قرارنا». وقيمة هذا الالتزام معزولة تماما عن مصير الشرق الأوسط؛ لأن الهدف الحقيقي منه يكمن في مكان آخر.

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، عمد توكاييف وقادة آخرون في آسيا الوسطى إلى تسريع سياستهم الخارجية التقليدية «متعددة الاتجاهات» وتحويلها إلى حملة «تنويع» عاجلة. وبالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ترجو كازاخستان أن تكسب ود واشنطن، وأن ترسخ مكانتها باعتبارها شريكا محتملا للاستثمار والحوار الاستراتيجي، وأن تؤكد استقلاليتها عن الكرملين - وكل ذلك دونما حاجة إلى مواجهة جارتها الشمالية القوية مواجهة علنية.

فهذه الخطوة لا تتعلق بإسرائيل أو إيران أو تركيا أو السلام في الشرق الأوسط. إنما هي مناورة استراتيجية في مشروع أستانا الرئيسي والأهم في السياسة الخارجية: وهو ضمان سيادتها وحريتها في العمل في عالم يزداد انقساما بين القوى العظمى.

وفي حين أن الإشادة المفرطة التي أغدقها قادة آسيا الوسطى على الرئيس ترامب ربما أثارت انزعاج موسكو، فإن محللين راسخين في روسا من أمثال سيرجي ماركيدونوف يدركون حقيقة التنويع ويدعون روسيا إلى السعي لتحقيق نتائج مفيدة ضمن هذا الإطار، بدلا من محاربته حربا دون كيشوتية. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الدرس المستفاد هو أن الدبلوماسية الأكثر فعالية تتضمن أحيانا وضع أطر تحفز الدول الأخرى على التحرك نحو واشنطن، بدلا من مطالبتها صراحة باختيار أحد الجانبين أو إجبارها على تبني مبادئ ديمقراطية.

إلدر محمدوف دبلوماسي سابق من لاتفيا وزميل غير مقيم في معهد كوينسي وعضو في مجلس بوجواش للعلوم والشئون العالمية.

الترجمة عن ذي ناشونال إنتريست

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى الاتفاقیات الإبراهیمیة الولایات المتحدة الشرق الأوسط آسیا الوسطى

إقرأ أيضاً:

هل ينفذ ترامب تهديداته ويجتاح فنزويلا؟


وناقشت حلقة (2025/11/13) من برنامج "من واشنطن" مع ضيوفها مسألة التحركات الأميركية في منطقة الكاريبي، خاصة على ضوء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن أيام نظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو باتت معدودة.

وبرأي المحلل الإستراتيجي في الحزب الجمهوري أدولفو فرانكو، فإن ما يقوم به الرئيس ترامب إزاء فنزويلا هو محاولة ترهيب فقط، لأن اجتياح فنزويلا برا يحتاج نحو 50 ألف جندي، و"عندما تحدث ترامب عن هجمات برية فهو يقصد ضربات من الجو ضد من وصفها بالعصابات الموجودة في فنزويلا".

ويقر فرانكو بأن الولايات المتحدة من ناحية البعد الجيوسياسي تريد تغييرا في فنزويلا، التي وصف رئيسها بالدكتاتور وبغير الشرعي، وتحدث عن مكافأة مقابل إلقاء القبض عليه تبلغ قيمتها 50 مليون دولار.

كما تهدف التحركات الأميركية إلى بعث رسالة إلى عصابات المخدرات في فنزويلا وكولومبيا بأنها تعتبرهم أهدافا مشروعة بموجب القانون الدولي.

من جهته، يقول بول ديفير، وهو ضابط استخبارات سابق في الجيش الأميركي، "بإمكان الولايات المتحدة استخدام الترهيب العسكري لإجبار الرئيس الفنزويلي على الخروج أو لإعلام الشعب الفنزويلي أنه ليس وحده"، معتبرا أن "مادورو رئيس غير شرعي، والانتخابات التي فاز فيها لم تكن شرعية".

غير أن خالد محاسن، وهو صحفي برازيلي مختص في شؤون أميركيا اللاتينية، رد على الضيفيْن الأميركيين بالقول إن الولايات المتحدة تدعم أنظمة دكتاتورية في دول أخرى لأنها صديقة لها، مؤكدا أن "أميركا الجنوبية لن تركع لأميركا الشمالية" ولم تعد الحديقة الخلفية لها، مشيرا إلى أن واشنطن حاولت مرار إسقاط نظام مادورو وقبله نظام هوغو شافيز ولم تفلح في ذلك.

ومع أن محاسن لم ينكر وجود خوف مستمر في أميركا الجنوبية في ظل إعلان رئيس أقوى دولة في العالم استهدافهم بنحو ما، إلا أنه حذر الأميركيين من دفع الثمن نفسه الذي دفعوه سابقا في فيتنام في حال استهدافهم فنزويلا.

وبينما يؤكد ضابط الاستخبارات السابق في الجيش الأميركي أن فنزويلا تصدّر المخدرات إلى الولايات المتحدة، ينفي الصحفي البرازيلي ذلك، ويقول إن فنزويلا ليس لديها إنتاج مخدرات أصلا.

خارطة جيوسياسية

أما حسن منيمنة، وهو زميل معهد الشرق الأوسط، فيرى أن التحرك الأميركي غير واضح الأهداف، وأن هناك من يضع هذا التحرك في إطار إعادة رسم الخارطة الجيوإستراتيجية عالميا والتأكيد على المبدأ القائل بأنه لا يجوز لفنزويلا محاولة بناء علاقات مع روسيا والصين وإيران.

ويضيف أن التحرك الذي تقدم عليه إدارة الرئيس ترامب ينقض النظام الدولي القائم على الأسس والقواعد وينقض حتى المبادئ الأميركية، لأن الذين تستهدفهم الطائرات الأميركية، ومنهم من يوجدون في زوارق صغيرة، يتم قتلهم خارج إطار المشروعية الأميركية.

وحسب ما ورد في برنامج "من واشنطن"، فقد أسفرت الهجمات الأميركية على سفن وقوارب يعتقد أنها من فنزويلا عن سقوط 76 قتيلا، تتهمهم واشنطن بالتجارة بالمخدرات دون أن تظهر أدلة قاطعة على اتهاماتها.

ويشير منيمنة إلى أن جناحا في إدارة ترامب يريد إسقاط النظام في فنزويلا، ومن بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، وحذر منيمنة من أن المسألة بالنسبة للولايات المتحدة لن تكون نزهة وتنتهي بسرعة كما يتوقع من يدفعون باتجاه الحرب، معربا عن خشيته من أن يكون الأمر كما حدث في العراق 2003.

يذكر أن للجيش الأميركي تاريخا من التدخلات في المنطقة، ففي عام 1965 أرسلت مشاة البحرية إلى جمهورية الدومينيكان، وفي عام 1983 إلى غرينادا، وفي عام 1989 إلى بنما، وهذه البلدان صغيرة مقارنة بفنزويلا التي تبلغ مساحتها 916 ألف كيلومتر مربع.

Published On 13/11/202513/11/2025|آخر تحديث: 19:08 (توقيت مكة)آخر تحديث: 19:08 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2

شارِكْ

facebooktwitterwhatsappcopylink

حفظ

مقالات مشابهة

  • كاتب إسرائيلي: لماذا يكرهنا الجيل الأميركي الشاب؟
  • واشنطن تطلب من مجلس الأمن تفويض قوة دولية في غزة حتى 2027
  • عودة الحديث عن الاتفاقات الإبراهيمية والتطبيع مع إسرائيل
  • وثائق استخباراتية: "علي بابا" تدعم بكين لاستهداف واشنطن
  • أبرز معارضي أفريقيا الوسطى يطعن أمام الأمم المتحدة بعد إسقاط جنسيته
  • مجلس الأمن يمدد مهمة حفظ السلام في أفريقيا الوسطى رغم تحفظات أميركا
  • هل ينفذ ترامب تهديداته ويجتاح فنزويلا؟
  • الشرق الأوسط الجديد.. واقع يقاوم الخيال
  • "الأوقاف" توقع عددًا من الاتفاقيات التنموية بأكثر من 500 مليون ريال بمؤتمر ومعرض الحج