مجازر مايو 1945.. يوم كافأت فرنسا الجزائريين بدفنهم في قبور جماعية
تاريخ النشر: 9th, May 2025 GMT
مجازر 8 مايو/أيار 1945 من أفظع وأبشع الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر أثناء فترة استعمارها. وقعت هذه المجازر في مدن سطيف وقالمة وخراطة شرقي البلاد.
خرج الجزائريون بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في مظاهرات سلمية للمطالبة بحقهم في الاستقلال كما وعدتهم فرنسا مقابل مشاركتهم في تلك الحرب مع جيشها.
وقد اتخذت الجزائر يوم 8 مايو/أيار يوما وطنيا للذاكرة، تقام فيه فعاليات رسمية وشعبية تخليدا لذكرى الضحايا.
الخلفية التاريخية والسياسيةعاشت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي من 1830 إلى 1962، وظل الجزائريون يعانون من التهميش والتمييز العنصري والقمع والاستغلال، ومن أبرز صور الاستغلال قانون التجنيد الإجباري الصادر في 3 فبراير/شباط 1912 بعدما كان تطوعا.
تزامن هذا القانون واستعداد فرنسا لخوض الحرب العالمية الأولى في 1914، إذ سعت لتكثيف وحشد جبهاتها القتالية في أوروبا، ورأت في شباب الجزائر فرصة لذلك، لكن القرار واجه رفضا شعبيا واسعا.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1 سبتمبر/أيلول 1939، وبعدما أعلنت ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر غزوها لبولندا ثم النمسا والتوجه إلى فرنسا، تأكدت الإدارة الفرنسية أنه من المستحيل وقف الآلة النازية إلا عبر تجهيز جيش وعتاد كبيرين.
وكانت فرنسا قدمت وعودا للجزائريين مقابل مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية، ومن ضمنها حصولهم على الحقوق المدنية والسياسية نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون في أوروبا، وتحسين ظروف التعليم والرعاية الصحية وتخفيف القيود الاقتصادية المفروضة عليهم.
إعلانكما وعدت الجزائيين بالمشاركة في الانتخابات المحلية أو المجالس الاستشارية ضمن نظام تمييزي يفصل بين الأوروبيين والمسلمين، وبإلغاء قانون التجنيد ومنحهم الحق في تقرير مصيرهم والمطالبة بالاستقلال.
وجندت فرنسا عشرات الآلاف من الجزائريين وأجبرتهم على القتال في صفوف جيشها، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب بلغ عدد المجندين نحو 66 ألفا، وفي مارس/آذار 1940 وصل العدد 89 ألفا.
مساندة فرنسا في الحربشارك المجندون الجزائريون في معارك عديدة بأوروبا دفاعا عن فرنسا، ومن بينها معركة مونتي كاسينو 1944، التي حدثت في جبال الأبينين بإيطاليا، وكانت إحدى أكثر المعارك دموية في الحرب، وكان لهم دور حاسم في كسر الدفاعات الألمانية رغم التضاريس الوعرة.
كما كانوا من أوائل الجنود الذين نزلوا في جزيرة كورسيكا لتحريرها من الاحتلال الألماني والإيطالي عام 1943، وأسهموا في العمليات العسكرية إلى جانب قوات فرنسية، وكانت هذه أول أرض فرنسية تتحرر بمشاركة قوات من شمال أفريقيا.
وكانت معركة "إنزال بروفانس" في 15 أغسطس/آب 1944 من أضخم المعارك، إذ نزل المجندون الجزائريون على شواطئ بروفانس لمواجهة القوات النازية وشاركوا في تحرير مدن رئيسية مثل تولون ومرسيليا.
وبعد ذلك الإنزال خاضوا معارك أخرى لتحرير منطقة الألزاس شمالي فرنسا من قبضة الألمان بجيش قوامه 260 ألفا، ورغم قسوة الظروف المناخية، إلا أن المجندين الجزائريين شاركوا بفعالية في إحكام السيطرة على المنطقة.
ومع اقتراب نهاية الحرب واصل المجندون التقدم مع القوات الفرنسية لعبور نهر الراين عام 1945 حتى دخلوا إلى الأراضي الألمانية وأضعفوا آخر دفاعات النازيين وأرغموهم على الاستسلام في مايو/أيار 1945.
ومن الأسماء البارزة التي شاركت في تلك المعارك علي بلقاضي من ولاية بجاية، وقد سلمه وزير الدفاع الفرنسي الأسبق جون إيف لودريان وسام فارس جوقة الشرف في 14 أغسطس/آب 2014، ومحمد أمزيان أوكاعور من منطقة تازمالت بولاية البويرة، وقد نال 4 تشريفات وميدالية عسكرية ووسام فارس جوقة الشرف.
إعلان
مظاهرات سلمية
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خرج الشعب الجزائري في مظاهرات سلمية في مختلف أنحاء الجزائر مطالبا فرنسا بالوفاء بوعودها وإطلاق سراح المعتقلين لديها، وفي مقدمتهم مصالي الحاج، وهو أحد أبرز قادة ثورة التحرير الجزائرية التي طالبت بالاستقلال الكامل عن فرنسا.
وكانت بداية المظاهرات السلمية وفق ما ذكره المؤرخ والأديب الجزائري أبو القاسم سعد الله في كتابه "الحركة الوطنية الجزائرية"، قد حدثت في الأول من مايو/أيار 1945 في بسكرة ووهران وقالمة.
وشارك في تلك المظاهرات عشرات الآلاف من الجزائريين رافعين الأعلام الوطنية ولافتات وشعارات مثل "حرروا مصالي الحاج" و "من أجل تحرير الشعوب" و"تحيا الجزائر حرة مستقلة" و"تسقط الإمبريالية".
وفي 8 مايو/أيار 1945 خرجت مظاهرات في مدينة سطيف وامتدت إلى قالمة لتعم بعد ذلك مناطق أخرى مجاورة، وخرج المتظاهرون أيضا في بعض المناطق الوسطى والغربية من الجزائر.
ويقول فرحات عباس -وهو أول رئيس للحكومة المؤقتة الجزائرية- في كتابه "ليل الاستعمار": كان يوم ثلاثاء يعقد فيه السوق الأسبوعي الذي توافد إليه الناس من كل أقطار الوطن فخرج حوالي 15000 كما توافد قرابة 200 عنصر من الكشافة الإسلامية الجزائرية.
وانطلق الموكب في حدود الثامنة والنصف مارا بشارع إنجلترا ثم شارع جورج كليمونصو، رافعين راية الحلفاء فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وكانوا ينشدون أناشيد الحرية والاستقلال.
الاغتيالات والمجازر
وفي حدود التاسعة والنصف وصلت المسيرة إلى مقهى فرنسا فخرج محافظ فرنسي يدعى "أوليفيري" واعترض الموكب وأمر أحد أطفال الكشافة ويدعى "بوزيد سعال" أن يعطيه الراية الوطنية لكنه رفض، فأطلق عليه الرصاص فكان أول شهيد يسقط في تلك المظاهرات.
أما في مدينة خراطة فقد انطلقت المظاهرات في حدود الساعة العاشرة صباحا بعدما اعترضت مجموعة جزائرية مسلحة طريق الحاكم الفرنسي للمدينة واغتالته بالقرب من قرية عموشة، وسعت إلى تنفيذ عمليات أخرى.
إعلانوفي التاسع من مايو/أيار من العام نفسه، أحرق المتظاهرون بعض المرافق السكنية والبريد المركزي وإدارة الضرائب والمحكمة، كما حاصروا رجال الدرك ومنزل لويس دوسكس، فقصفتهم القوات الفرنسية بالرشاشات الثقيلة والمدافع.
وفي قالمة تجمع المتظاهرون في مركز المدينة ورفعوا الشعارات نفسها التي رفعت في مدينة سطيف، ما أثار غضب الفرنسيين، الذين تقول التقارير عن تلك الأحداث إنهم قتلوا الجزائريين بشكل عشوائي وأحرقوا الجثث في أفران الجير بهيليوبوليس.
كما دمر الجيش الفرنسي القرى والبوادي بالطائرات الحربية، أما في المدن الكبرى فكانوا يحشدون الناس ويأمروهم بحفر قبور جماعية، ثم يقسمونهم إلى مجموعات ويطلقون عليهم الرصاص بالرشاشات ويأمرون كل فوج بدفن من سبقه.
علاوة على ذلك أمرت السلطات الفرنسية بإيقاف 4560 شخصا صدرت في حق بعضهم أحكام بالإعدام، وعوقب آخرون بالأشغال الشاقة.
وحسب تقارير المؤرخ والصحافي الفرنسي شارل أندري جوليان، فإن عدد الجزائريين الذين تعرضوا للاعتقال بلغ 8560، منهم 3696 في إقليم قسنطينة و505 في وهران و359 في الجزائر العاصمة في نوفمبر/تشرين الثاني 1945.
أما عدد الضحايا فقدر بما يقارب 45 ألف قتيل، في حين اعترفت الحكومة الفرنسية بقتل 1500 فقط.
الآثار السياسية والاجتماعيةشكلت هذه المجازر نقطة تحول في العلاقات الجزائرية الفرنسية على المستويين الرسمي والشعبي، كما أظهرت الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي.
وحولت هذه الأحداث الحركة الوطنية من حركة تطالب بالإصلاحات إلى حركة تدعو للنضال والكفاح المسلح، واعتبرت الجزائر تلك المجازر إعلانا غير رسمي لحرب طويلة الأمد، فبدأ عندئذ التحضير السري لتأسيس جبهة التحرير الوطني تمهيدا للثورة عام 1954.
الموقف الفرنسيفي عام 2005 وصف السفير الفرنسي لدى الجزائر هوبير كولان دو بيلاي، المجازر بأنها "مأساة لا تغتفر"، وهي أولى التصريحات الرسمية التي صدرت عن فرنسا وتضمنت اعترافا شبه رسمي بتلك الجرائم.
إعلانوفي مايو/أيار 2020 وصف الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون مجازر سطيف وقالمة وخراطة بأنها "جريمة لا تغتفر".
وفي 2021 زار سفير فرنسا لدى الجزائر آنذاك فرانسوا غوييت مدينة خراطة بمناسبة إحياء الذكرى الـ76 للمجازر ووضع إكليلا من الزهور عند النصب التذكاري للشهيد "بوزيد سعال" ووقف دقيقة صمت ترحما على روحه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحرب العالمیة الثانیة فی الحرب فی تلک
إقرأ أيضاً:
تبون: الجزائر لا تنسى.. وتحذيرات من التناسي المتعمد لجرائم الاستعمار النووية
أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن ذكرى مجازر 8 أيار / مايو 1945 الأليمة تمثل لحظة مفصلية في تاريخ الأمة الجزائرية، أعادت توجيه نضالات الحركة الوطنية نحو الكفاح المسلح، بعد أن سقط أكثر من 45 ألف شهيد على يد الاستعمار الفرنسي.
وقال تبون في كلمة وجهها إلى الشعب الجزائري في الذكرى 80 لمجازر 8 من أيار / ايو 1945: إن الجزائر لا تقبل إطلاقاً أن يكون ملف الذاكرة عرضة للتناسي أو الإنكار، داعيًا إلى تثبيت أمانة الشهداء في الوجدان الوطني كركيزة للهوية والسيادة.
لحظة للوفاء وتغذية الوعي الوطني
وفي سياق متصل، اعتبر رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، أن مجازر الثامن من ماي 1945 ليست فقط مأساة إنسانية، بل "محطة أليمة تغذى منها الوعي الوطني وألهمته عناصر قوة إضافية لتفجير ثورة نوفمبر الخالدة".
وأضاف في منشور رسمي أن هذه الذكرى رسّخت "الذاكرة المشتركة، ووحدة المصير، ومتانة اللحمة الوطنية"، مُستحضرًا تضحيات الشهداء كدافع دائم لحماية الوطن وتعزيز مناعته.
إعلاء شأن الذاكرة.. مسؤولية دولة ومؤسسات
وفي افتتاح فعاليات "اليوم الوطني للذاكرة" بقصر الأمم، وتحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية، أكّد وزير المجاهدين وذوي الحقوق، العيد ربيقة، أن "أصدق أشكال الوفاء للشهداء والمجاهدين هو إعلاء شأن الذاكرة الوطنية، والحفاظ على قيمها وصونها"، مشيرًا إلى أن تمكين الأجيال من حقهم في معرفة التاريخ الوطني، ودعم المؤرخين ومراكز الدراسات، يشكّل حجر الزاوية في ترسيخ هوية الأمة.
وذكّر ربيقة برسالة رئيس الجمهورية في هذه المناسبة، والتي شدد فيها على أن ملف الذاكرة غير قابل للتناسي أو التسوية السياسية، مؤكداً أن تكريم المؤرخين وأعلام الذاكرة هو اعتراف بأدوارهم في صون الأمانة التاريخية.
التفجيرات النووية.. الصمت المزدوج والنداء الحقوقي
من جهتها، شددت منظمة "شعاع" الحقوقية على أن الوفاء الحقيقي للذاكرة لا يكتمل دون معالجة جدية لملف التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية (1960 ـ 1966)، مطالبة الدولة الجزائرية بالتحرك العاجل والشفاف تجاه هذا الملف، الذي لا يزال يشهد تجاهلاً مزدوجاً من باريس والجزائر، رغم تحذيرات المقررين الخاصين للأمم المتحدة في سبتمبر 2024.
وانتقدت المنظمة ما اعتبرته "ازدواجية في الخطاب الرسمي"، مطالبة بفتح الأرشيف النووي وتعويض المتضررين، ومشددة على أن التعامل مع آثار الإشعاع النووي على السكان والبيئة لا يجب أن يُرحّل أو يُسيّس، بل أن يُدرج ضمن الأولويات السيادية والحقوقية للدولة.
يذكر أنه بين عامي 1960 و1966، نفذت فرنسا سلسلة من التجارب النووية في صحراء الجزائر، خلّفت آثارًا بيئية وصحية مدمرة ما تزال قائمة حتى اليوم. وعلى الرغم من مرور أكثر من ستة عقود، لا يزال هذا الملف الحساس طيّ التجاهل من الحكومتين الجزائرية والفرنسية، وسط مطالب متزايدة بفتح الأرشيف، الاعتراف بالجرائم، وتعويض الضحايا. وقد زاد الضغط الدولي مع نداء مشترك أصدره المقررون الخاصون بالأمم المتحدة في سبتمبر 2024، دعا إلى تحقيق شفاف ومسؤول، لكن الرد ظل غائبًا.
ثمانون عاماً مرت على المجازر، لكن أثرها في الضمير الجمعي الجزائري لم يندثر. من خراطة إلى رقان، ومن سطيف إلى إن إكر، تبقى الذاكرة الوطنية مسؤولية جماعية، تتقاطع فيها مبادئ التحرير، ومطالب العدالة، والتزام المؤسسات. واليوم، بينما تُستحضر تلك اللحظات بدموع الوفاء، يبقى التحدي الأكبر هو ترجمة الإرادة السياسية إلى ملفات مغلقة بكرامة، لا مجرد خطابات عابرة أو مناسبات رمزية.