أمل المغيزوية -
ويضيق صدري:
تحت ظل الشريشة الكبيرة جلس يرمق السيارات المسرعة على جسد الشارع الطويل، كان الجو حارقًا والحرارة تنبعث دون توقف وتشعره بالضجر والأسى والتبرُّم.
حرارة الجو دفعته لفتح ياقة الدشداشة التي يرتديها، شعر بخيوط العرق تنساب لتغطي جسده، تمنى لو تمر عليه لفحة من هواء بارد تخفف من حدة الحرارة التي تسري في عروقه، كان الجو ساكنًا، والحرارة تتزايد وأعداد الناس من حوله تقل تدريجيًا.
ذكر اسم الله، وحوقل وتوكل عليه، وضع الصينية المعدنية الكبيرة والتي تضم في جوفها الكثير من رطب الخنيزي بقربه، كما وضع مجموعة من الأكياس البلاستيكية بجانبها، وعدّل من وضعية السحارة الخشبية، وجلس فوقها والحرارة تسيطر على ملامح المشهد من حوله.
ظل يرمق المارين والعابرين من حوله، ويتأمل وجوههم المتعبة، وحركاتهم السريعة فرارًا من حرارة الشمس، كان الجو مُغبرًا مُغلفًا بطبقة ضبابية إثر الحرارة المتصاعدة التي بدأت منذ لحظات شروق الشمس الأولى، وتستمر دون توقف حتى مغيب الشمس، مترافقة مع رطوبة خانقة تزيد من توتر الناس، وتشعل فتيل غضبهم، وتزيد من حدة صراخهم وضجيجهم الذي لا يتوقف.
ويضيق صدري:
ظل يتابع حركة الباص المدرسي الذي مر بجانبه، عاد طفلا صغيرًا يحمل حقيبته القديمة خلف ظهره، تلك الحقيبة التي ظهرت عليها تمزقات متباينة حاولت أمه بشتى الطرق إصلاحها؛ لأنها لا تمتلك ثمن حقيبة جديدة، تذكر عصا معلم الرياضيات التي تركت آثارًا عميقة في باطن يده؛ لأنه عجز عن حفظ جدول الضرب، استعاد صورة شهادته الدراسية التي تحمل درجات متدنية، كما وُضِعت على بعض المواد علامة باللون الأحمر، وكُتب تحتها تنبيه يفيد بأنه لن ينتقل للصف الأعلى، وبرزت أمامه صور المشاجرات التي خاضها طوعًا بعد سيل الشتائم والسخرية التي طالته من طلاب فصله.
مازال يتذكر تفاصيل حصة الرياضة حين ارتدى فانيلة ممزقة من عدة جوانب، خلع دشداشته على استحياء حاول تغطية تلك التمزقات، ما زال صوت ضحكات طلاب فصله يرن في رأسه كناقوس ضخم لا يتوقف عن الطنين.
توقف عن إكمال دراسته كما توقف عن إكمال الكثير من المهام طوال حياته، الإحساس بالملل والإنهاك يسري بسرعة في داخله، ويدفعه لتركها من منتصف المسافة، حتى الوظائف المتواضعة التي عمل فيها غيّرها بعد أن أدرك عجزه عن محاربة حالة التيه التي يمر بها والتي تدفعه للتبديل في كل مرة.
باص مدرسته كان يفتقر للمكيف كما كان يفتقر للعديد من الأساسيات، يبدو كقطعة حديد بالية تسير فوق الشارع، يسيل العرق ليبلل ملابسهم، وتفوح روائح العرق الخانقة في الباص رغم النوافذ المفتوحة، حركته البطيئة تشعره بالحزن والحسرة كان يتمنى أن يصل سريعًا إلى بيته؛ ليخرج من دائرة الصراع داخل الباص، لكنه كان يهرب من صراع إلى صراع أكبر وأشد وقعًا على نفسه.
ويضيق صدري:
طرد أسراب الذباب التي بدأت تتجمع حول حبات الرطب، مسح العرق الكثيف الذي دفع ملابسه للالتصاق بجسده النحيل، مزق قطعة من صندوق الكرتون القابع بجانبه استخدم تلك القطعة لتحريك الهواء الساخن الساكن، راقب الأجساد التي بدأ عددها يتقلص بشكل ملحوظ نتيجة ارتفاع الحرارة، تمنى لو ينتهي من بيع الرطب بسرعة، لو يعود إلى بيته لينام تحت المكيف رغم صوته الصاخب، غير أنه تذكر تذمر زوجته الكثير والمتكرر، صراخ أطفاله، الثلاجة الخالية الخاوية إلا من حبات معدودة من الليمون، وبعض الرطب الموضوع في كرتون صغير، الإنذار الكبير الذي ختمت به فاتورة الكهرباء، شعر بالخوف من قادم الأيام، انتابته حالة من الدوار الداخلي، عاد للمراقبة؛ ليطرد كل تلك المخاوف التي وسّعت دائرة الضيق والتوتر التي يعيشها.
ويضيق صدري:
لم يتبدّل حاله كثيرًا ما زالت ملابسه مغبرة كما كانت سابقًا، البيت الذي يسكنه بالإيجار، والذي هُدد أكثر من مرة بطرده منه، يشبه بيتهم القديم الذي تآكلت معظم معالمه، وتشققت جدرانه وفقد ألوانه منذ أمد بعيد، وجوه أطفاله الحالكة والذابلة تشبه وجهه الذابل الذي حرقت الشمس معظم جوانبه، وطمست أجزاء كبيرة من يده ورجليه، تذمر زوجته وصراخها يذكره بصراخ أمه الحاد والمتواصل، لجأ والده في هروب من المواجهة للخمر والمسكرات، ولجأ هو للهرب من البيت بالجلوس في الشارع والطرقات.
ويضيق صدري:
شعر بالعطش يداهمه، والجفاف يغزو حلقه، نهض بهدوء تناول زجاجة الماء التي ملأها من ثلاجة المسجد القريب، شربها واقفًا ودفعة واحدة، كما كان يفعل دائمًا في طفولته، تذكر كلمات أمه ونصائحها المتواصلة عن الشرب جالسًا وعلى دفعات اتباعًا للسنة، تنهد بصوت مسموع وعاد ليعدل من وضعية السحارة، تأمل الشريشة القريبة منه تمنى لو يلاحظ تحرك وريقاتها، لعل ريحًا هاربة تخفف من شدة الحرارة التي تسيطر عليه وعلى الكون بكل ما فيه، كان الجو جامدًا والحرارة تلسعه رغم الظلال الخفيفة التي صنعتها الشريشة بكل صمود.
أحس بجوع ينهش بطنه بقسوة، تذكر أنه لم يشرب سوى كوب صغير من الشاي اشتراه من محل صغير ضيق يقبع أمام مرمى بصره، مد يده نحو حبات الرطب تناول ثلاث حبات؛ ليخفف من حدة أصوات الجوع التي بدأت تظهر للعلن، واستعاد صورة أقراص الخبز التي كانت تصنعها أمه، والتي كان يسكب عليها الكثير من عسل الدبس لتزداد طراوة وحلاوة.
عاد ليتأمل الشارع المحيط به شاهد السيارات القليلة التي تجري بسرعة فوق جسد الشارع الصامت، تمنى لو يملك سيارة، حتى لو كانت تشبه سيارة والده القديمة بلونها الأحمر الفاقع، وصوت هديرها العالي، كانت ستخفف عنه بلا شك بعضًا من الحرارة التي ما زالت مستمرة بجلده بسياط عنيفة لا تهدأ ولا تتوقف، كما أنها سوف تمنحه مظهرًا اجتماعيًا يقلل من عمق الدونية التي تشعره بالضآلة والتقزم.
ويضيق صدري:
ما زالت الحرارة تسيطر على ملامح المشهد من حوله، طرد مرة أخرى الذباب الذي يحوم حول الرطب والذي يبدو أنه لا يشعر بالحر الشديد ولا يتأثر به، تأمل الشارع الفارغ إلا من أصوات الصيف المرهقة، شعر بضيق في صدره، لم يرغب بالعودة اليوم إلى بيته، رغم انتصاف النهار، لاحت له وجوه أطفاله الحزينة والناظرة ليديه الفارغتين، أبصر وجه زوجته الغاضب، وظهرت له صورة البيت القديم والفاتورة التي تحمل رقمًا كبيرًا وإنذارًا أكبر باللون الأحمر، شعر بالأسى يخنقه ويمنعه من التقاط أنفاسه، وضاق صدره ...
أمل المغيزوية قاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کان الجو من حوله
إقرأ أيضاً:
تدشين أعمال إنشاء الجزيرة الوسطية وترميم وإنارة الشارع العام في المرواعة بالحديدة
الثورة نت /..
دُشنت بمدينة المراوعة محافظة الحديدة، أعمال مشروع إنشاء الجزيرة الوسطية وترميم وإنارة الشارع العام بطول كيلومتر، تنفذها الوحدة التنفيذية بتمويل وإشراف قطاع الأشغال بالمحافظة، ضمن مشاريع تحسين البنية التحتية وتجميل المدينة.
وفي التدشين، أوضح مدير المديرية عبدالله المروني، أن تنفيذ المشروع، يأتي في إطار جهود تعزيز البنية التحتية وتحقيق التنمية المستدامة.
وأشار إلى أن المشروع، سيسهم في تحسين شبكة الطرق وتنظيم حركة السير والارتقاء بالمشهد الجمالي وتعزيز السلامة المرورية في المديرية.
واعتبر المروني، هذه الأعمال خطوة نوعية لتحسين البيئة، مشيداً بجهود الوحدة التنفيذية وقطاع الأشغال في تنفيذ المشاريع التي تسهم في تحسين وتطوير الخدمات العامة.
بدوره، أشار مسؤول قطاع الأشغال بالمديرية عبدالله الشرفي إلى أن المشروع، يأتي ضمن خطة إعادة تأهيل الطرق وتحسين مداخل المديرية ومظهرها العام، وتزويد الشوارع بالإنارة المعتمدة على الطاقة الشمسية لتعزيز أمن وسلامة الطرق وتحقيق التنمية المستدامة.