إيقاع الموج ونزيف الحرائق ..قراءة في مجموعة «شيء يشبه الرقص»
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
سامي المسلماني -
تحدّد المجموعة الشعريّة الأولى، غالبا، الملامح العامّة للتجربة الشعريّة، فهي تمثّل، بحقّ، اختبارا للذات الشاعرة وهي تبحث لنفسها عن مكان تحت الشمس في عالم الشعر والشعراء.
هي، في الآن نفسه، تدريب وتجريب يتجلّى فيهما صوت الشاعر الخاصّ والمميّز واتجاهه الوجودي والشعري، أي ما يُعبّر عنه بالمناخ الشعريّ.
«شيء يشبه الرقص»، هي المجموعة الشعريّة الأولى للشاعر السعودي شفيق العبادي، صدرت عن دار عرب للنشر والترجمة ببريطانيا، واحتوت على خمسة وأربعين نصّا شعريّا، امتدّت على إحدى وثمانين صفحة. وما يلفت الانتباه في هذه المجموعة أنها عبارة عن «بيان شعريّ» شامل، عبّر فيه الشاعر عن طريقته الخاصّة في تعامله مع اللغة من حيث هي مادّة خام، تمثّل طريقة تشكيلها الهويّة المميِّزة للشاعر. وبذلك جعل الشاعر لمجموعته وحدة عضويّة تجمع بين نصوصه وتوحّدها. ولعلّ العنوان يحيل على ذلك بوضوح وجلاء، فالمجموعة هي، حقّا، الرقصة الخاصّة بالشاعر، لها حركاتها المختلفة، وإيقاعها المميّز، ولا يخفى هنا ما تحيل عليه عبارة الرقص، فهو فنّ يجمع بين ثنائيّة الجسد والروح، وثنائية الصورة والرمز، وثنائية الحركة والدلالة... وبذلك يغدو العنوان دلاليّا جامعا وعتبة تحيل على المتن، ومدخلا يعبر بنا إلى نصوص الكتاب ومضامينه. فرغم تعدّد النصوص وتنوعها فإنّها تسير نحو مصبّ واحد يتمثّل في نظرة الشاعر إلى القول الشعريّ أو لِنقل علاقة الشاعر بالشعر.
وقد استخلصنا هذا الحكم من خلال ما خيّم على المجموعة من مناجاة واضحة للغة والشعر بصورة عامّة وللقصيدة بصورة خاصّة. فشعر شفيق العبادي، في وجه من وجوهه، حفر عميق في عالم الشعر، وذلك من حيث أسسه الجماليّة وشروطه ومظاهره ومآتيه وروّاده وحيرته وغربته.. ولعلّ الأسّ الجماليّ الأوّل الذي ارتكز عليه الشاعر هو الإيقاع، فلا رقص دون إيقاع، ولا إيقاع دون حركات، إذ لا شكّ في أن الإيقاع الشعري يعتمد بالأساس حسب التقنين الخليليّ على الأصوات القصيرة والطويلة، وما الأصوات حسب المفاهيم الألسنية الحديثة سوى حركات تطول وتقصر وتتوقّف وتستمرّ، وتتماثل وتختلف... وما ميّز الإيقاع عند شفيق العبادي هو أنه خرج به من الجماعيّ إلى الفرديّ فحاول أن ينشئ إيقاعه الخاصّ، ويمكن تسميته بـ«الإيقاع المرئيّ»، فالإيقاع عند شفيق العبادي لا يُسمع فقط بل يُرى أيضا، مثلما نرى الراقص وهو يرقص!
تنتمي مجموعة شفيق العبادي إلى شعر التفعيلة، إذ اعتمد على أغلب التفعيلات الخليلية والتزم بما وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي من قواعد وشروط إيقاعية، كما نلمس أيضا ظاهرة التدوير التي نجدها في أكثر من موضع، وعلى سبيل المثال المقطع التالي الذي اعتمد فيه على بحر البسيط: أول الأبجديّة من هاهنا مرّ عمرك في التيه يهتف كلّ الصّبايا نضجن فكيف نخاتل شوك النواطير كيما تعود إلى القلب بُجْر الغرام.(ص24) لكن ما يلفت النظر في المجموعة هو مراوحة السطر الشعريّ، بما هو الوحدة الكلاميّة في شعر التفعيلة، بين القصر والطول، فأحيانا نلمح أسطرا قصيرة، وأحيانا أخرى نلمح أسطرا تطول إلى درجة أننا نجد أنفسنا إزاء فقرات متكاملة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قول الشاعر في الصفحة 31: كان لسنين لا يعلمها إلّا البحر... ذلك الشيخ الذي ما انفكّ يلتقط ما فاض من حكايانا لمعانقة جدرانه الآيلة للرّحيل منذ أن صاهر مناماتنا ذات سفر مفردة ملقاة على هامش القلب يتلصّص على هجعة المراكب وهي تغسل ما علق بها من تنهّداته، ولكأنّ كلّ تلك السنين التي أسلمته مرافئها يقترح ما يشاء من نوارس يضيء هديلها فرح المنارات، ويرشد رفيف أجنحتها قوابل الرياح لحبالى الأيام ومخاضات الأزمنة، لم تجر نهيراتها أفاعي مازال هسيسها يجفل شهوة المراكب لأيّ مجالدة لم يكن هو طالعها». وبذلك يجمع الإيقاع بين خصائص الموزون وسمات المنثور، فإذا بنا أمام دوران الوزن واستقامة السرد أو المسرود، وهذا التنوّع الإيقاعي يرفده تنوّع آخر وهو تنوّع القوافي بين التماثل والتناوب والإهمال، ولعلّ هذا ما يؤكد أن نصوص شفيق العبادي قد خرجت عن الجماعيّ الامتثاليّ كي تعانق الذاتيّ الفرديّ، فشعره يقع في لا مكان ويتموضع في جهة أخرى من جهات الشعر، فهو شعر تفعيلة ينحو نحو الشعر الحرّ وهو شعر حرّ ينحو نحو قصيدة النثر التي تعتمد الفقرة الشعرية من حيث هي وحدة كلامية تحاكي النثر أو السرد وتفارقه بما تتميز به من توق إلى سمات الشعر مثل اللازمنية والاعتباطية والكثافة الدلالية، حسب سوزان برنار في تنظيراتها لقصيدة النثر الفرنسية. أليس هذا رقص بين أنماط شعريّة مختلفة؟! ولعلّ ذلك يبدو متلائما مع الانبثاق الانفجاري للشعر في المجموعة، إذ كأن الشاعر يسعى إلى أن يقول كل شيء دفعة واحدة أو هو يسعى إلى جعل اللغة تقول أكثر ممّا كانت تقوله. وعلى هذا الأساس كان الإيقاع ليّنا متموّجا يحاكي في نفس الوقت حركات الجسد الراقص وتدافع الأمواج الهادر تارة والهادئ تارة أخرى. لكنّ هذا الإيقاع لم يكن معزولا عن الأسس الجمالية الأخرى للشعر بل بدا منسجما معها أيّما انسجام. فالإيقاع الصوتي الحركي يخدم التشكيل اللغويّ المتين ويرفد إيقاع الصور الكثيف المتأتي بالخصوص من الاستعارة والرمز والقناع. وقد ساعد على ذلك ما يلوح في كامل المجموعة من مزج واع بين اللغة التقريريّة ذات الإيقاع البطيء المتموّج وبين الإيقاع السريع والكثيف. فالصورة الشعرية عند شفيق العبادي لا تعتمد على علم البيان التقليديّ وإنما تحتذي حذو المفاهيم التصويرية الحداثية فترتكز على التشكيل اللغويّ المميّز الذي يوغل في الاستعارة الرمزية ويبتعد قدر المستطاع عن المفهوم التقليديّ لها بماهي تشبيه حذف أحد أركانه، إذ أن الأنساق اللغوية المتّصلة ببناء الجملة تنأى عن المألوف فتطول وتتموّج فتتوالد الاستعارات ومن ثمة الرموز والأقنعة دون توقف، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى، يقول في الصفحة 10 مثلا: سلام على الشوك إذ يجرح الدرب دون التفات إلى لوعة المنحنى، سلام على ذكريات الجدار الذي حبُلت ضفّتاه بما فاض من كأسنا، سلام على قمر ظلّ يغرس في بركة الليل أقداحه كي يلوّن أهدابه بالمنى سدى كلّما طلّ شوقا كعادته. ومن هنا نستنتج أن شعر العبادي طبقات تصويرية كثيفة جمع فيها بين النص القرآني من خلال قصة النبي يوسف والجبّ والحديث النبويّ (تربت يداك) وقصة المتنبّي مع كافور الاخشيدي وقصة طرفة بن العبد مع الرسالة القاتلة واستحضار الشاعر المعاصر أدونيس من خلال كتابيه «مفرد في صيغة الجمع»
و«أبجدية ثانية»... وبذلك طغت على المجموعة مسحة من الغموض الشعري الذي يعتبر من أبرز خصائص الشعر المعاصر. فهذا الغموض يجعل القول الشعريّ حمّال دلالات فيُقرأ قراءات متعدّدة تجعله خالدا عبر الزمن فلا تنفد معانيه. فمثلما كان الإيقاع متنوّعا ومثلما كانت الصورة طبقات عديدة، كانت المضامين عميقة وتضرب في كلّ اتجاه. وهذه المضامين تصبّ أغلبها، مثلما قلنا سابقا، في بيان شعريّ شامل تتماهى فيه الغنائية بالسيرة الذاتية والمحسوس بالمجرّد، والواقعيّ بالخياليّ والماضي بالحاضر... فالشاعر «يستعير فم اللغة» كي يستلهم نصوصه من الطفولة والذاكرة وما ترسّب في الأعماق من ذكريات غائمة ومكتنزة شعرا، تلك الذكريات اختمرت في أعماق الشاعر وتعتّقت، فكانت مثل عفريت مصباح علاء الدين، لا يخرج إلا بعد حكّ ودعك، لقد خرج ذاك العفريت فكان في شكل نصوص شعرية طافحة وهي تغادر قمقم الذات، فكأنّ النصوص الشعريّة عفاريت تسكن في قاع الفانوس، ولا تخرج من الأعماق إلا بعد أن تنضج وتكتمل، فالشاعر هنا يبرز مصادر نصوصه ومآتيها، فيجعل القصيدة تتحدّث عن نفسها بنفسها فكأنّنا إزاء «الميتاشعر» أو ما يُعرف بالقصيدة الواصفة أي القصيدة التي تصف نفسها بنفسها، فيرصد كيفية ولادة القصيدة وانتقالها من الخفوت والكمون إلى التجلّي والظهور ومن العتمة إلى النور، يقول الشاعر في الصفحة 3 : «صاهرت قناديل وحشتها وهي تفتل حبال العتمة وتحكّ فوانيسها النائمة بحثا عن محظيّة الزمن الغابر» وربّما لذلك يشيع في المجموعة معجم الولادة التي لم تكن سهلة ومتسرّعة بل كانت بعد أناة وتريّث فكأن عمر الشاعر رحم احتضن تلك النصوص لمدة طويلة ولم يسمح لها بالتجلّي إلا بعد أن رضي عنها أو كاد. فانتشرت عبارات من قبيل: خداج، رحم قوابل، حبلى... ولعلّ سبب التعسّر في الولادة هو خوف الشاعر من الوقوع في التقليد والرغبة في التجديد، يقول الشاعر: كذلك الفتى الغامض الذي يلقم أشعاره الجميلة جدران الليل فتكبر مجهولة النسب» الصفحة (3) فهو لا يريد أن يقول ما قاله السابقون بل يريد أن يقول المجهول الغامض هو يريد أن يقول الحلم والرؤيا، يقول في نفس الصفحة: « منحتها أنامل عرّافة تتحسّس مكامن الحروف الآيلة للشبق كي تزرع في شقوقها براعم الرؤيا»، فالنص الشعريّ بالنسبة إلى الشاعر قطعة من لحمه وروحه يسخّر له كلّ ما يحتاجه من أدوات وتقنيات حتى يكون في أجمل صورة، لذلك تراه يلعب باللغة وفيها كي يعيد اختراع ذاته ومن ثمّة حياته، تلك الحياة الموازية لحياته اليومية، أو لِنقل إعادة تشكيل حياته شعرا، فكأن الشاعر يسعى إلى العيش بالشعر ويرغب في بناء كون شعريّ يُعاد فيه اختراع الإنسان، يقول في الصفحة 32: «أيّهذا المقيم بروحي ترجّل فقد أدرك الشوط غايته والجياد الأصيلات أتعبها الانتظار ووحدي أنا واقف بين شوطين هذا يريد ابتكار الحياة، وهذا يجيد ارتكاب الحياة». ولكن في ثنايا بحث الشاعر عن ذاته في عالم الشعر والشعراء يستشعر حيرة وغربة فكأنه يرقص فوق الحبال ولا يدري أيتجاوزها ويتخطّاها أم هو يسقط ويهوي، يقول في الصفحة 40: أنا عاثر الحظّ لا بدّ لي باعتراف كهذا لأرتاح ممّا يراودني كلّما عنّ لي أن أعيد مغامرة الرقص فوق حبال القصيدة لست أجيد التبرّج لا علم لي بالسباحة مرتديا سترة الغير صارية في مياه المجاز ولست جريئا لأرمي بكلّ شباكي ليصطادني الآخرون» ولكن رغم ذلك يعترف الشاعر بأن النقص سمة الإبداع فإذا تمّ مات وإذا اكتمل انتحر، فمتعة الإبداع لا تكمن في نقطة النهاية وإنما تكمن في الطريق الذي يلهث فيه الشاعر وراء ذاك النصّ الفريد الذي لن يكتمل أبدا! يقول شفيق العبادي في الصفحة 40 أيضا: أسمّيه حين يراودني الحلم شعرا وأدعوه حين تدور له الأرض خمرا وأنكره حينما لا أرى أنّه لا ينتمي للرّقيب الذي داخلي»، كما يبرز الشاعر أيضا أن القدوم إلى عالم الشعر ليس اختيارا فلا احد يختار أن يكون شاعرا، ولا احد يختار أن يكون نبيْا، وهنا يمتزج الشعر بالنبوة، فالشاعر مثل النبيّ غريب لأنه يأتي بالجديد ولأنه يقول ما لا يقوله الآخرون، ومن هنا تتأتّى اللوعة والحرائق، فالشعر نعمة ولعنة، انطلاق واختناق، بهجة وتعاسة.... يأكل من لحم الشاعر وروحه ويحرق أوقاته بلظى المشاعر والعواطف، إنه صدفة زرقاء تشعل أوقاته بالأحجيات والألغاز والأسرار، فيوغل ملتهبا في ندوبه وأحزانه.
نخلص في آخر المطاف إلى أنّ مجموعة شفيق العبادي ليست شيئا يشبه الرقص بل هي رقصة متكاملة، تعدّدت فيها الحركات وتنوّعت فكانت طبقات من التقنيات الفنية والدلالات الكثيفة فبدت بذلك شديدة القرب من المدرسة الرمزيّة، إذ وردت الموسيقى منسجمة مع الأبعاد التشكيليّة لقصائده، وقصائده جسّدت في أغلبها حالات نفسية ورؤى فكريّة وفلسفيّة، فبدا واضحا أن شفيق العبادي يعيش شعره ويندفع فيه من بواعث شعوريّة ولا شعوريّة فتدفّق شعره عفويّا يحاكي عفويّة الطفولة ودهشتها، فابتعد بذلك عن القوانين الصارمة للإيقاع الخليليّ وطوّعه لارهاصاته النفسية وخلجاته الروحية فراوح بين المنظوم وما يشبه المنثور في لغة متينة جزلة، فإذا بمجموعته تجسّد «طوفان الكتابة»، تتدافع فيها الحروف والكلمات والتراكيب وهي تسعى إلى تجاوز أوحال الكتابة، وبذلك كان شعره سفرا في المجاز وإيغالا في الرمزيّة، وكأنّه يروم استحضار المجهول البعيد. لقد مثّلت مجموعة «شيء يشبه الرقص» بحقّ مغامرة شعريّة جسّدت نظريّة الفنّ القائمة على إرجاء الموت عبر تجميد اللحظة الراهنة، والسفر بعيدا في غابة الشعر. وبذلك تمكّن شفيق العبادي من قراءة الوجود واستقراء ذاته من جديد فكانت مجموعته رحلة الذات الشاعرة منها وإليها.
سامي المسلماني كاتب تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المجموعة عالم الشعر فی الصفحة ة الأولى الشعری ة على ذلک یقول فی أن یقول شعری ة
إقرأ أيضاً:
شريكة الحياة
لما شغر كرسي خلافة الشعر بعد وفاة أحمد شوقي أمير الشعراء في 14/10/1932 ميلادية، تقدّم الشاعر الكبير عزيز أباظة بين عشرات الشعراء العرب لإمارة الشعر. ولم يكسب المنصب أحد من المتنافسين إلى أيامنا هذه، وقد مضى 93 عامًا على شغور عرش الشعر. وقد امتاز عزيز بأنه خصص ديواناً من قصائده في رثاء زوجته. وذكر أنها في آخر حياتها طلبت منه أن تحج إلى بيت الله الكريم، ولكنه تلكّأ رغم قدرته على تحقيق ذلك الأمل لها، ولم يكن يعلم قرب أجلها. فندم أشد الندم وأنشأ قصيدة طويلة يتحسر فيها، عندما زار الحرم النبوي أنه لم يسارع بالاستجابة لطلبها. وقال:
وددتُ بعيني لو أجبت طِلابها
وكان يسيرًا أن يُجابَ طِلابها
وفي غمرة الحزن الذي أصابني بوفاة شريكة حياتي في 26/4/1447هـ في إحدى مستشفيات جدة، قال لي صديق: إن الكتابة تخفف من الأسى، وقال: إنه قد عرف شدة فقد الزوجة، وأنه كتب قصيدة في رثاء زوجته، ولكني لست بشاعر.
وقد وردت التعازي إليّ من المملكة، ومن حضرموت وشبوة وعدن، ومن مصر ومن الإمارات ومن ألمانيا وأستراليا وكندا. فلهم شكري وعرفاني على مواساتهم، وعلى دعواتهم لي ولها في مشارق الأرض ومغاربها. وقد رأيت زوجة جدها في المنام قبل بضعة أيام من الوفاة تسير في صالة المنزل، وتقول: با أستقبل مرومة محمّدة.
وفي مكة المكرمة لم تستطع سيدة لظروفها الصحية أن تأتي للعزاء، فأمرت حفيدها أن يعتمر هدية منها لروح الفقيدة. وفي ختام أيام العزاء دعا لي أحد المعارف بالقول: أعانكم الله وخفف عنكم المصاب، وجعل أجرها في ميزانكم، وطيفها يلاطفكم في كل وقت.
كنت أراها في المستشفى فأتوجع لوجعها وأناديها بكلمة يا شريكة حياتي. فقد كانت نعم الزوجة ونعم شريكة الحياة في الحلوة والمرة وفي السراء والضراء. وإذا طلب مني أحد معونة وليس معي ما أزوده بها قالت: حاول. وربما تصرّفت هي لكي تساعد طالب الحاجة. وهي بين النساء محبوبة عطوفة سبّاقة للخيرات مع مودة عفوية في أسارير وجهها تنم عن الحنان وعن حب الخير للناس. فكم من قائلة في التعزية هذي أمي بعد أمي.
أغمضت عينيها في الساعات الأخيرة ولكن شفتيها بدأت بالانفراج. وقد رآها الدكتور وهي ترفع سبابتها وتخفضها فنادى ابنتها: تعالي انظري لكي تتعزى وتفرح ودموعها تسيل. وبعد غسلها ظهرت ابتسامتها واضحة للعيان يعد ثناياها من يراها.. لكنني لما رأيت أخي وولدها وحفيدها طالعين من قبرها، وأخذ العمال يهيلون التراب عليها توقدت اللوعة كالجمرة في خاطري.
ولست أقول إلا ما يقوله الصابرون: إنا لله وإنا إليه راجعون.