الموقف الأمريكي من وحدة سوريا: قراءة نقدية في بنية المصالح وتحوّلات الخطاب
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
في السياسة، كما في التاريخ، لا تُقاس المواقف بما يُقال، بل بما يُفعل، ولا تُفهم التصريحات إلا حين تُقرأ في سياقها، وفي ما يُراد منها، وفي ما تُخفيه أكثر مما تُظهره. والموقف الأمريكي من وحدة سوريا، كما يتشكّل اليوم، لا يُمكن أن يُفهم إلا بوصفه انعكاسا لتحوّلات أعمق في بنية المصالح الأمريكية، وفي فهم واشنطن لطبيعة الدولة، ولحدود القوة، ولإمكانات الضبط في عالم يتفكك أكثر مما يتماسك.
منذ بداية الأزمة السورية، لم تكن الولايات المتحدة واضحة في موقفها من وحدة سوريا، بل كانت تُراوغ، وتُناور، وتُراهن على الفصائل، ثم تتراجع، تُلوّح بالتقسيم، ثم تُحذّر منه، تدعم الأكراد، ثم تُطمئن تركيا، تُدين النظام، ثم تُفاوضه عبر وسطاء. هذا التذبذب لم يكن نتيجة ارتباك، بل نتيجة صراع داخلي بين مؤسسات القرار الأمريكي، وبين رؤيتين متنافرتين: واحدة ترى في سوريا ساحة لتصفية الحسابات مع إيران وروسيا، وأخرى ترى فيها عبئا لا يستحق الانخراط العميق.
لكن ما تغيّر اليوم، في 2025، هو أن واشنطن بدأت تُعيد تعريف مصالحها في سوريا، لا من خلال ما تُريده، بل من خلال ما تخشى منه؛ الخوف من عودة تنظيم داعش، ومن تمدد النفوذ الإيراني، ومن انهيار الحدود، ومن موجات نزوح جديدة، ومن تصاعد التوترات الكردية التركية.. كل ذلك دفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في موقفها من وحدة سوريا، لا بوصفها مطلبا سوريّا، بل بوصفها ضرورة أمنية أمريكية.
وهنا يبدأ النقد الحقيقي: هل الموقف الأمريكي من وحدة سوريا هو موقف مبدئي؟ أم هو موقف وظيفي مؤقت، تُعاد صياغته وفقا للمتغيرات؟ وهل يمكن للسوريين أن يُراهنوا على هذا الموقف لبناء مشروع وطني؟ أم أن الرهان على واشنطن هو رهان على ظلّ لا على أصل؟
واشنطن، التي تُطالب بالوحدة، تُبقي على قواعدها العسكرية في الشمال الشرقي، وتُفاوض "قسد" على شروط الدمج، وتُلوّح لأنقرة بإمكانية التدخل، وتُشجّع الفصائل على الانخراط في مؤسسات الدولة، لكنها في الوقت نفسه تُبقي على العقوبات، وتُراقب الشرع بحذر، وتُطالب بضمانات أمنية، وتُشكّك في قدرته على ضبط الأطراف
وحدة سوريا في الخطاب الأمريكي: من التجاهل إلى التوظيف
في السنوات الأولى من الأزمة، لم تكن وحدة سوريا ضمن أولويات الخطاب الأمريكي، بل كانت التصريحات تُركّز على "الانتقال السياسي"، وعلى "رحيل الأسد"، و"دعم المعارضة المعتدلة"، و"حماية الأقليات"، و"مكافحة الإرهاب". لم يكن هناك حديث واضح عن وحدة الدولة، بل كان هناك تلميح دائم إلى إمكانية "اللامركزية"، أو "الفدرالية"، أو "الحكم الذاتي"، خاصة في المناطق الكردية.
هذا الغموض كان مقصودا، فالولايات المتحدة كانت تُدرك أن أي موقف واضح من وحدة سوريا سيُغضب أحد الأطراف: إما تركيا، التي ترفض أي كيان كردي مستقل، أو الأكراد الذين يُطالبون بالحكم الذاتي، أو المعارضة التي تُريد إسقاط النظام، أو النظام نفسه، الذي يُريد استعادة السيطرة الكاملة. لذلك، فضّلت واشنطن أن تُبقي خطابها مرن وقابلا للتأويل، يُرضي الجميع دون أن تُلزم نفسها بشيء.
لكن هذا الخطاب بدأ يتغيّر تدريجيا، خاصة بعد صعود تنظيم داعش، وبعد أن أثبتت التجربة أن الفوضى لا تُنتج إلا مزيدا من الفوضى. بدأت واشنطن تُدرك أن تفكك سوريا يُهدد مصالحها، وأن وحدة الدولة، حتى لو كانت تحت سلطة لا تُحبّذها، أفضل من استمرار التمزق. وهنا بدأ الحديث عن "الحكومة المركزية الشاملة"، و"رفض الفدرالية"، و"دعم الحوار الوطني"، و"دمج المؤسسات"، و"إعادة بناء الدولة".
هذا التحول في الخطاب لا يُعبّر عن تغيير في المبادئ، بل عن تغيير في الحسابات. فواشنطن لم تُصبح فجأة مؤمنة بوحدة سوريا، بل أصبحت ترى فيها ضرورة لتقليص المخاطر، وهذا ما يجعل الموقف الأمريكي هشا، وقابلا للتراجع، ومشروطا بالنتائج، ولا يُبنى عليه مشروع طويل الأمد.
أحمد الشرع: بين البراغماتية الأمريكية والرهان السوري
في قلب هذا التحول، برز اسم أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي، بوصفه شخصية يُمكن أن تُجسّد هذا التوازن الصعب بين الواقعية السياسية والمقبولية الشعبية. الشرع، الذي جاء من خلفية عسكرية وفصائلية ثم انتقل إلى موقع القيادة، يُمثّل في نظر واشنطن نموذجا يُمكن التعامل معه: ليس تابعا لكنه ليس متمرّدا، يُجيد لغة المصالح، ويُدرك حدود القوة، ويُقدّم نفسه بوصفه رجل دولة لا رجل مرحلة.
لكن هذا الرهان الأمريكي على الشرع لا يخلو من تناقضات، فواشنطن، التي تُطالب بالوحدة، تُبقي على قواعدها العسكرية في الشمال الشرقي، وتُفاوض "قسد" على شروط الدمج، وتُلوّح لأنقرة بإمكانية التدخل، وتُشجّع الفصائل على الانخراط في مؤسسات الدولة، لكنها في الوقت نفسه تُبقي على العقوبات، وتُراقب الشرع بحذر، وتُطالب بضمانات أمنية، وتُشكّك في قدرته على ضبط الأطراف.
هذا التناقض يُضعف الموقف الأمريكي، ويُربك القيادة السورية، ويُعقّد عملية بناء الثقة. فالسوريون الذين أنهكتهم الحرب لا يُريدون رئيسا يُرضي واشنطن، بل يُريدون مشروعا يُعيد لهم الوطن. والشرع، إذا أراد أن يُثبت نفسه، عليه أن يُقدّم رؤية تتجاوز البراغماتية الأمريكية، وتُخاطب الداخل قبل الخارج، وتُعيد تعريف الدولة بوصفها عقدا اجتماعيا، لا مجرد سلطة مركزية.
وحدة سوريا كقضية إقليمية: بين أنقرة وطهران وتل أبيب
الموقف الأمريكي من وحدة سوريا لا يُمكن فصله عن المواقف الإقليمية. فتركيا تُعارض أي كيان كردي مستقل، وتُطالب بدمج "قسد" ضمن الجيش السوري، وتُلوّح بالتدخل العسكري إذا شعرت أن مصالحها مهددة. وإيران تُريد الحفاظ على نفوذها في سوريا، وتُفضّل بقاء الدولة موحدة تحت سلطة حليفة، لكنها تُعارض أي تقارب بين دمشق وواشنطن. وإسرائيل تُراقب المشهد بحذر، وتخشى من أن يُؤدي التغيير إلى تهديد أمنها، خاصة إذا تعزّز الوجود التركي أو الإيراني في الجنوب السوري.
هذه التعقيدات تجعل وحدة سوريا قضية إقليمية بامتياز، لا يُمكن حلّها دون توافق بين القوى الكبرى. وواشنطن، التي تُدرك ذلك، تُحاول أن تُوازن بين مصالحها ومصالح حلفائها، لكنها في الوقت نفسه تُدرك أن أي خلل في هذا التوازن قد يُعيد إشعال الصراع، ويُقوّض جهود إعادة البناء.
وهنا يُطرح السؤال النقدي: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تُدير هذا التوازن؟ وهل يُمكن أن تُقدّم نفسها بوصفها وسيطا نزيها؟ أم أن مصالحها ستبقى هي الحاكمة، وأن وحدة سوريا ستبقى مشروطة بما تُريده واشنطن، لا بما يُريده السوريون؟
وحدة الدولة أم وحدة السلطة؟ تفكيك المفهوم
من أخطر ما في الخطاب الأمريكي أنه يخلط بين وحدة الدولة ووحدة السلطة. فالدولة، في معناها العميق، هي مؤسسات، وهوية، وعقد اجتماعي، بينما السلطة هي من يُدير هذه الدولة. والموقف الأمريكي، حين يُطالب بوحدة سوريا، لا يُوضّح هل يُريد وحدة المؤسسات؟ أم وحدة القرار؟ أم وحدة الجغرافيا؟ أم وحدة الهوية؟
وحدة الدولة أم وحدة السلطة؟ تفكيك المفهوم
هذا الغموض يُتيح لواشنطن أن تُناور، أن تدعم "اللامركزية الإدارية"، أن تُفاوض "قسد" على خصوصيات المناطق، أن تُشجّع الفصائل على المشاركة، أن تُطالب بضمانات للأقليات، أن تُبقي على قواعدها العسكرية، أن تُراقب الشرع، أن تُلوّح بالعقوبات، أن تُشجّع على الحوار، ثم تُهدّد بالانسحاب؛ كل ذلك دون أن تُقدّم تعريفا واضحا لما تعنيه بـ "وحدة سوريا".
هل المقصود وحدة الأرض؟ أم وحدة القرار؟ أم وحدة المؤسسات؟ أم وحدة الهوية؟ أم مجرد غطاء سياسي يُتيح لها إدارة مصالحها دون أن تُلزم نفسها بشيء؟ هذا السؤال، الذي يبدو تقنيا، هو في جوهره سؤال سياسي بامتياز؛ لأن وحدة الدولة، كما يفهمها السوريون، تعني استعادة السيادة، ودمج المؤسسات، وتوحيد الجيش، ورفع الوصايات، بينما وحدة السلطة، كما تُمارسها واشنطن، تعني وجود جهة يمكن التفاوض معها، وتمكن مساءلتها ويمكن الضغط عليها، دون أن تُهدّد مصالحها.
وهنا يكمن التناقض: واشنطن تُريد دولة موحّدة لكنها تُبقي على أدوات التفكيك، تُريد سلطة مركزية لكنها تُفاوض الأطراف، تُريد مؤسسات وطنية لكنها تُشجّع على الخصوصيات، تُريد استقرارا لكنها تُبقي على أدوات الضغط. وهذا ما يجعل الموقف الأمريكي هشا، وقابلا للتأويل، ولا يُبنى عليه مشروع وطني صلب.
الخطاب الأمريكي: بين الواقعية السياسية والازدواجية الأخلاقية
من يقرأ الخطاب الأمريكي حول سوريا، يُلاحظ أنه يتراوح بين الواقعية السياسية والازدواجية الأخلاقية. ففي لحظات معينة، تُقدّم واشنطن نفسها بوصفها راعية للحل السياسي؛ تُطالب بالحوار، وتُشجّع على المصالحة، وتدعم جهود الأمم المتحدة، لكنها في لحظات أخرى تُمارس سياسة العقوبات، وتُهدّد بالانسحاب، وتُلوّح بالتدخل، وتُشجّع على الانقسام، وتُفاوض الأطراف دون المرور بالحكومة المركزية.
هذه الازدواجية لا تُعبّر عن ارتباك، بل عن استراتيجية. فواشنطن تُدرك أن سوريا ليست ملفا مستقلا، بل جزء من شبكة مصالحها في المنطقة. وهي تُدير هذا الملف وفقا لتوازنات دقيقة: بين علاقتها مع تركيا، وبين احتوائها لإيران، وبين أمن إسرائيل، وبين مصالحها في العراق، وبين ملفات الطاقة، وبين إدارة التحالفات. لذلك، فإن موقفها من وحدة سوريا لا يُمكن أن يُفهم إلا ضمن هذه الشبكة، لا بوصفه موقفا مبدئيا، بل بوصفه أداة لإدارة التوازنات.
وهنا يُطرح السؤال النقدي: هل يمكن للسوريين أن يُراهنوا على هذا الخطاب؟ وهل يمكن أن يُبنى عليه مشروع وطني؟ أم أن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الداخل؛ على إعادة بناء الثقة، وصياغة عقد اجتماعي جديد، وتجاوز منطق المحاور، واستعادة الدولة من داخلها، لا من خارجها؟
اللحظة السورية: بين الفرصة التاريخية والتهديد المستمر
السؤال الحقيقي ليس: ماذا تُريد واشنطن؟ بل: ماذا يُريد السوريون؟ وهل يستطيعون أن يُعيدوا بناء دولتهم، لا بوصفها سلطة، بل بوصفها معنى؟ وهل يستطيعون أن يُحوّلوا الدعم الأمريكي إلى فرصة، لا إلى وصاية؟ وهل
رغم كل التعقيدات، فإن اللحظة الحالية تُشكّل فرصة نادرة. فالإصرار الأمريكي على وحدة سوريا، وإن كان مدفوعا بالخوف من الفوضى، إلا أنه يُمكن أن يُشكّل نقطة انطلاق لمشروع وطني حقيقي. هذا المشروع لا يُبنى على الأمن وحده، بل على العدالة، والمواطنة، والمشاركة، وعلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والناس، بين الحاكم والمحكوم.
لكن هذه الفرصة لا قد تدوم طويلا؛ لأن البديل عنها هو العودة إلى الفوضى، والانقسام، والتنظيمات المتطرفة، والنزوح، وانهيار المؤسسات، وفقدان الثقة، وإعادة إنتاج الحرب بأشكال جديدة. وهذا ما لا يُحتمل، لا في دمشق، ولا في واشنطن، ولا في أي عاصمة تُدرك أن العالم اليوم لا يحتمل المزيد من الانهيارات.
لذلك، فإن السؤال الحقيقي ليس: ماذا تُريد واشنطن؟ بل: ماذا يُريد السوريون؟ وهل يستطيعون أن يُعيدوا بناء دولتهم، لا بوصفها سلطة، بل بوصفها معنى؟ وهل يستطيعون أن يُحوّلوا الدعم الأمريكي إلى فرصة، لا إلى وصاية؟ وهل يستطيعون أن يُعيدوا تعريف الوطن، لا بوصفه جغرافيا، بل بوصفه عقدا اجتماعيا، يُشارك فيه الجميع، دون إقصاء، ودون خوف، ودون تهميش؟
خاتمة: السياسة كفنّ التوازن لا كفنّ الهيمنة
السياسة، في جوهرها، ليست شعارات، بل توازنات، لكنها أيضا ليست هيمنة، بل إدارة للمصالح ضمن حدود الممكن. والموقف الأمريكي من وحدة سوريا يُعبّر عن هذا التوتر بين الرغبة في الضبط، والخوف من الانفلات، وبين الحاجة إلى الشريك، والرغبة في السيطرة، وبين الواقعية السياسية، والازدواجية الأخلاقية.
لكن سوريا، إذا أرادت أن تستعيد نفسها، عليها أن تُدرك أن الدولة لا تُبنى من الخارج، ولا تُستعاد بالرهان على القوى الكبرى، بل تُبنى من الداخل، من المجتمع، من المؤسسات، من الثقة، من العدالة، من المشاركة، من الاعتراف بالتعدد، من تجاوز منطق الغلبة، من إعادة تعريف السلطة بوصفها خدمة لا امتيازا.
وإذا استطاعت القيادة السورية أن تُدرك ذلك، فإن وحدة سوريا لن تكون مجرد موقف أمريكي، بل ستكون خيارا وطنيا، ومشروعا جامعا، ولحظة تأسيس جديدة، تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة، وتُعيد للناس ثقتهم بأن الوطن لا يُقصي أحدا، ولا يُبنى على الخوف، ولا يُدار من الخارج.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء السياسة سوريا الشرع سوريا امريكا سياسة الوحدة الشرع مدونات مدونات مدونات قضايا وآراء مدونات قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات مقالات صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخطاب الأمریکی وحدة الدولة وحدة السلطة مشروع وطنی ت بقی على لکنها فی لا ی بنى مکن أن ی دون أن ت لا ی مکن ی مکن أن لکنها ت أم وحدة وهنا ی م نفسه ت طالب التی ت ت راقب ت فاوض
إقرأ أيضاً:
الأخلاق والمصالح.. صراع في زمن الجشع
أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com
منذ فجر التاريخ شكّلت الأخلاق حجر الأساس الذي يقوم عليه تماسك المجتمعات واستقرارها، فهي الضابط الذي ينظّم العلاقات بين الأفراد ويجعل الإنسان كائنًا راقيًا يترفّع عن الأنانية والظلم والطمع، غير أنّ عالم اليوم يشهد تراجعًا مقلقًا في مكانة الأخلاق أمام تصاعد موجة المصالح المادية التي تحركها الرغبة الجامحة في الربح والنفوذ.
ومع ازدهار الاقتصاد العالمي وتحوّل المال إلى معيار للنجاح والتفوّق، أصبحت المصالح الاقتصادية والسياسية تتقدّم على المبادئ الإنسانية حتى غدت الأخلاق ضحية هذا الصراع غير المتكافئ بين القيم والربح، وبين الضمير والجشع.
العلاقة بين الأخلاق والمصالح علاقة أزلية عرفها الإنسان منذ أن بدأ ينظّم حياته الاجتماعية ويوازن بين حاجاته المادية والتزاماته المعنوية، فالتاريخ الإنساني مليء بصراعات بين ما هو نافع ماديًا وما هو صائب أخلاقيًا، غير أنّ ميزان هذه العلاقة كان -في أزمنة سابقة- يميل غالبًا إلى جانب الأخلاق، حيث كانت المصلحة تُضبط بميزان الضمير وتُقوَّم بمعايير العدالة والإنصاف، أما في عصر العولمة والاقتصاد الحر فقد انقلبت الموازين في عالم تقوده الشركات العملاقة والمضاربات الاقتصادية والمنافسة الشرسة على الموارد والأسواق حتى أصبحت المصالح هي الموجِّه الأول لقرارات الدول والشركات والأفراد، ولو كان الثمن الإنسان والبيئة والمجتمع.
لقد تحوّل الجشع المالي إلى أحد أبرز مظاهر الانحلال في العصر الحديث؛ فالرغبة المفرطة في الكسب جعلت كثيرًا من المؤسسات والأفراد يتجاوزون الحدود الأخلاقية في سبيل تحقيق الأرباح، نرى شركات كبرى تدمّر البيئة دون اكتراث بمستقبل الأجيال القادمة وتستغلّ الشعوب الفقيرة في مصانعها بأجور زهيدة لتضاعف مكاسبها، وتُشعل بعض القوى الكبرى الحروب والنزاعات للسيطرة على مصادر الطاقة أو بيع الأسلحة، فتُزهق الأرواح وتُدمَّر المدن باسم "المصلحة القومية" أو “التوازن الاقتصادي”، وكأنّ الضمير الإنساني قد أُقصي من حسابات المصالح العالمية. فالجشع أم الكبائر ومنبت كل شر، فهو يفسد الضمير ويحوّل الإنسان من كائن راقٍ يسعى إلى الخير، إلى آلة لا ترى في الآخرين سوى وسيلة لمزيد من المكاسب.
لا يقتصر هذا التراجع الأخلاقي على المستوى السياسي أو الاقتصادي؛ بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية، فقد أصبح كثير من الناس يقيّمون علاقاتهم الاجتماعية بناءً على المنفعة، فالصداقة تقاس بما يقدّمه الآخر من فائدة، والعمل يُبنى على المصالح لا الكفاءة، وحتى في أبسط صور التعامل، تراجع الإخلاص والأمانة أمام نزعة تحقيق المكاسب الشخصية. ويبدو أنّ مفهوم “الغاية تبرر الوسيلة” أصبح شعارًا خفيًا يتبنّاه كثيرون دون وعي في ظل عالم تحكمه المادة وتُقاس فيه القيمة بقدر ما يمتلك الإنسان لا بما يمثّله من خلق أو ضمير.
ومن أبرز الشواهد الواقعية على هذا الانحراف أزمة المناخ العالمية التي تهدد كوكبنا، فالشركات الصناعية الكبرى -رغم علمها بخطورة الانبعاثات الغازية على البيئة- ترفض خفضها خشية أن تتأثر أرباحها، ويحدث الأمر ذاته في أسواق المال، حيث تتكرر الأزمات نتيجة مضاربات جشعة لا تراعي أي اعتبارات إنسانية، كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي دمّرت اقتصادات وبيوتًا وأحلامًا، بينما خرج منها كبار المستثمرين بمكاسب هائلة، إنها صورة صارخة لعالم فقد توازنه بين المصلحة والأخلاق، فاختلّت القيم وضاعت الإنسانية بين الأرقام.
ورغم هذا المشهد القاتم، لا يزال هناك ما يدعو إلى الأمل، فثمة أصوات ومؤسسات وشخصيات تتمسك بالقيم في مواجهة تيار المادية الجارف، بدأت بعض الشركات تتبنّى مفهوم “المسؤولية الاجتماعية”، فترى في خدمة المجتمع والبيئة واجبًا لا خيارًا، وظهرت حركات شبابية تدعو إلى “الاستهلاك الأخلاقي”، تشجّع على شراء المنتجات التي تُنتَج بطرق عادلة وصديقة للبيئة، كما أنّ منظمات حقوق الإنسان ما زالت تكافح لتذكير العالم بأنّ المصلحة الحقيقية لا تكون إلا في احترام الكرامة الإنسانية وحماية العدالة، غير أن هذه الجهود رغم أهميتها، تظل محدودة التأثير ما لم تتحوّل الأخلاق إلى ركيزة أساسية في منظومة القيم العالمية.
إن استعادة مركزية الأخلاق في حياة الإنسان المعاصر تقتضي رؤية شاملة تبدأ من التربية والتعليم، فبناء الإنسان الأخلاقي لا يتحقق بالمواعظ وحدها، بل بالممارسة العملية منذ الطفولة من خلال غرس قيم الأمانة والنزاهة والرحمة في المناهج والسلوك اليومي. كما ينبغي أن يلعب الإعلام دوره في نشر الوعي الأخلاقي، فيُعلي من شأن القيم الإيجابية ويحدّ من ثقافة الاستهلاك والسطحية، ولا يقل دور الحكومات أهمية، إذ يجب أن تكون القيم الأخلاقية أساسًا في السياسات العامة، وأن تُسنّ التشريعات التي تضمن العدالة وتُحاسب كل من يعبث بحقوق الإنسان أو بالبيئة، كما أن دعم الاستثمار الأخلاقي وتشجيع المشاريع المستدامة يمكن أن يخلق توازنًا بين الربح والمصلحة العامة.
أما على مستوى الأفراد، فإنّ المسؤولية الأخلاقية تبدأ من الخيارات الصغيرة التي نصنعها يوميًا، فطريقة تعاملنا مع الآخرين واستهلاكنا للموارد ونظرتنا للمال والعمل، جميعها مواقف تحدد انتماءنا إلى جانب الأخلاق أو إلى منطق المصلحة البحتة، وإذا أدرك كل إنسان أن الالتزام الأخلاقي لا يتعارض مع النجاح وإنما يمنحه معنى وقيمة، فإن العالم سيستعيد بعضًا من توازنه المفقود.
لقد بات من الواضح أن العالم اليوم يعيش أزمة أخلاقية عميقة سببها تغليب المصالح على الأخلاق، وإذا استمر هذا الاتجاه، فلن يكون الخطر مقتصرًا على الأخلاق؛ بل سيمسّ وجود الإنسان ذاته؛ فالمال لا يستطيع أن يبني مجتمعات عادلة ولا أن يصنع سلامًا دائمًا، ولا يمنح الإنسان سعادة حقيقية، إن استعادة الأخلاق إلى موقعها الطبيعي في مقدمة الاهتمامات الإنسانية ليست ترفًا فكريًا؛ بل هي ضرورة للبقاء، فحين تعود الأخلاق لتقود المصالح، يصبح المال وسيلة لا غاية، وتستعيد الإنسانية معناها الأسمى، ويسترجع الإنسان جوهره النبيل الذي به يستحق أن يُدعى إنسانًا.