جيمس وود / ترجمة -أحمد شافعي

في عام 2011، كتبت أن قراءة لاسلو كراسناهوركي «أشبه قليلا بجماعة من الناس واقفين في دائرة في ميدان بمدينة صغيرة، ويبدو أنهم يستدفئون بنار، ثم يكتشف المرء مع اقترابه منهم أنه ما من نار، وأنهم مجتمعون حول لا شيء».

بالنسبة لكثير من القراء العاديين، قد تشكل فكرة دخول عالم روائي يتأرجح طوال الوقت على حافة بين الكشف الوشيك على الدوام، والخفي، حيث الكلمات تمضي بلا توقف حول إشارة ما، ووسيلتها المفضلة هي الجملة الطويلة المتدفقة، التي تستغرق قل أربعمائة صفحة، قد تشكل بالضبط حالة الجنون المتأرجح التي يكتب عنها لاسلو كراسناهوركي ببراعة منذ سنين كثيرة.

وقد تشكل ما أطلق عليه «تأمل الواقع إلى درجة الجنون».

في ذلك الوقت، لم يكن متاحا من روايات لاسلو كراسناهوركي في الإنجليزية غير روايتين هما «كآبة المقاومة» و«الحرب والحرب» اللتان نشرتا باللغة المجرية في عامي 1989 و1999 على الترتيب. كان لاسلو كراسناهوركي بالفعل ظاهرة في أوروبا، وفي ألمانيا بصفة خاصة، حيث كان يعيش وحيث ترجمت أغلب أعماله إلى الألمانية. هناك كان يشيع وصفه بأنه مرشح للفوز بجائزة نوبل، ولكن مع ندرة المتوافر في اللغة الإنجليزية، بقيت تلك الشائعات في حدود نمائم البلاط. ومع ذلك تنقلت «كآبة المقاومة» بين الأيدي شأن الأدب الممنوع. كانت رواية مجرية، ذات عنوان مهيب، حزين، طنان (يلمح إلماح العليم إلى أهمية المقاومة وما تفضي إليه حتما من إنهاك)، وتحمل ثناء كلٍّ من جي دبليو سيبولد وسوزان سونتاج.

وبعيدا عن الروايتين المترجمتين، كانت لدينا لمحات معذِّبة من بقية الكتب. فلم تكن رواية كراسناهوركي الأولى «تانجو الخراب» (المنشورة أصلا سنة 1985) متاحة بعد في اللغة الإنجليزية، لكن كان بوسع المرء أن يشاهد فيلم بيلا تار المأخوذ عنها والحامل لعنوانها والذي يبلغ طوله سبع ساعات (وقد كتب كراسناهوركي سيناريوهات لستة من أفلام بيلا تار). ولعلي شاهدت قرابة الساعتين من «تانجو الخراب» لكنني حتى ظهور الترجمة الإنجليزية التي أنجزها الشاعر جورج سيرتس، لم يكن بوسعي إلا أن أتخيل الجمل الملتفة الواضحة الممتدة التي يفترض أن لقطات تار الطويلة تحاكيها سينمائيا على أفضل نحو ممكن:

«جلس الطبيب بجوار الشباك شاعرا بالغم، ملامسا بكتفيه الجدار البارد الرطب، ولم يعن حتى بتحريك رأسه لينظر من الفجوة القائمة بين الستارة المشجرة المتربة التي ورثها عن أمه وإطار الشباك المتعفن ليرى العقار، وإن تحتم عليه فقط أن يرفع عينيه عن كتابه، ويلقي نظرة خاطفة ليلاحظ أوهى تغير، وإن حدث بين الحين والآخر أن غرق تماما في أفكاره أو أن ركز على إحدى نقاط العقار البعيدة فغاب شيء عن عينيه، كانت أذناه المرهفتان الحادتان تهبّان لنجدته، ولو أنه نادرا ما كان يغرق في التفكير، وأندر من ذلك أن ينهض بمعطفه الشتوي ذي البنيقة الفرائية من مقعده الوثير المغطي بالبطانية محدد الموضع بغاية الدقة من خلال ركام تجارب أنشطته اليومية، حتى نجح في أن يقلص إلى أدنى حد ممكن من عدد المناسبات المحتملة التي يكون عليه فيها أن يغادر مرصده هذا بجانب الشباك».

وبدأ قراء العالم الأنجلوفوني في الملاحقة، إذ بدأ طوفان من الأعمال المترجمة في الوصول، مؤكدا أستاذية كراسناهوركي: فمنها «سايبو في الأسفل» (2013)، و«عودة البارون وينكهايم إلى الوطن» (2019) وأحدثها «هيرشت 07769» (2024)، ولعلها الأيسر بين رواياته. (وجميع أعماله السردية الحديثة انتقلت إلى لغة إنجليزية متدفقة متعرجة على يد المترجمة الكندية الرائعة أوتيلي مولزيت). وكل عمل منها فريد واستثنائي، وكل يتسع به نطاق كراسناهوركي. ففي رواية «عودة البارون وينكهايم إلى الوطن» على سبيل المثال مواجهة مأساوية لاهية كيخوتية بين السكان المحبطين المعادين للأجانب في بلدة مجرية ريفية خربة وبين البارون بيلا وينكهايم المشار إليه في العنوان، وهو البارون الذي يعلق عليه أهل البلدة آمالهم (الرجعية في الغالب). لكن الأرستقراطي العائد رجل مسرف منهك لن يجد لنفسه ملاذا من أهل بلدته المتخاصمين الفطريين. وتذكرنا الرواية بمدى الطرافة الذي يمكن أن يكون عليها كراسناهوركي، حتى أن الجملة التي يصدّر بها الرواية تقول إن: الخلود سيستمر بقدر ما سيستمر.

لكن الروايتين المبكرتين اللتين قرأتهما سابقا في 2011 هما بطريقة ما اللتان تؤسسان الجو الفريد لكثير من الأعمال المتأخرة: السياسات المتقلبة في البلدات الصغيرة المجرية وفي ألمانيا الشرقية السابقة (بوجود ذوي النزعة المحلية، والنازيين الجدد، والمحافظين على التقاليد والقانون والنظام)، الإحساس المزعج بقرب نهاية العالم، سياسيا وميتافيزيقيا، وولع كراسناهوركي بأصحاب الهوس الحالمين والحمقى المقدسين (من قبيل الخبير العالمي في الطحالب، وموظف الأرشيف المقتنع بأنه اكتشف مخطوطة منسية منذ أمد بعيد ويسافر إلى نيويورك ليخبر العالم بأمرها، وعازف البيانو المهووس بضبط أوتار البيانو بإحكام). وبرغم وجود مظاهر تشير إلى خلاف ذلك ـ من جمل متشعبة وفكر محموم ـ فإن أعمال كراسناهوركي، قديمها وجديدها، تخلو من أي تكتم، فهي تواجه مباشرة الواقع الأوروبي المعاصر ومخاطره، بما في ذلك عذاب ديناميات التوطن والانتقال والهوية.

بالنسبة للقراء الجدد، قد يكون خير مكان لمقابلة هذا كله هو أحدث روايات كراسناهوركي أي «هيرشت 07769» وتتناول رجلا عظيم الشأن، لكنه بطريقته، عادي تماما، هو فلوريان هيرشت الذي يعيش في بلدة صغيرة في تورينجيا بألمانيا الشرقية السابقة، ووظيفته هي إزالة الجرافيتي عن مباني البلدة العامة. هيرشت أشبه بمزيج ملهم وحائر من هيرتزوج عند صول بيلو، وفرتيمر عند توماس برنهارد، وهانتا الراوي الوحيد في رواية «عزلة شديدة الصخب» (1976) لبوهوميل هاربال الذي تقوم وظيفته على ضغط الورق الهالك والكتب القديمة. سيطرت على هيرشت فكرة أن تراكم المادة المضادة سوف تؤدي بطريقة ما إلى تدمير العالم، فيقرر أن الشخص الأقدر على الاستجابة لجميع مخاوفه هو المستشارة الألمانية (وعالمة الفيزياء وكيمياء الكم السابقة) أنجيلا ميركل. فيبدأ في إرسال رسائل مطولة إليها لا تلقى منها أي رد، موقعة باسم عائلته، متبوعا بالرمز البريدي: هيرشت ـ 07769

فاز صول بيلو بجائزة نوبل سنة 1976، وكان يجب أن يفوز بها بيرنهارد وهارابال. لكن الأكاديمية أصابت على الأقل في حالة كراسناهوركي، فعسى أن تجلب له الجائزة الكثير من القراء. أما من دخل منا بالفعل عالم سرده الغريب الرائع، فلا يمثل خبر حصوله على جائزة نوبل في الأدب مفاجأة كبيرة. بل إنه يبدو في واقع الأمر عدلا عاديا، أقرب إلى كأس مستحق في نهاية يوم عمل شاق.

عن ذي نيويوركر

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

546 ألف حالة سنويًا.. 23% ارتفاعًا بمعدل الوفيات المرتبطة بالحرارة

أكد تقرير صدر عن مؤسسة "لانسيت كاونت داون" حول الصحة وتغير المناخ بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، أن الاعتماد المستمر والمفرط على الوقود الأحفوري والفشل في التكيف مع عالم ترتفع حرارته يتسببان في أضرار مدمرة لصحة الإنسان.
وأوضح التقرير، وفقًا لموقع "أخبار الأمم المتحدة"، ضرورة الاعتراف بحماية صحة الناس باعتبارها أقوى محرك للعمل المناخي، و خلص إلى أن 12 من أصل 20 مؤشرًا رئيسيًا لتتبع التهديدات الصحية وصلت إلى مستويات قياسية، مما يدل على أن التقاعس المناخي يكلف الأرواح، ويجهد النظم الصحية، ويقوض الاقتصادات.
أخبار متعلقة من خارج النظام الشمسي.. مذنب بينجمي نادر يمر قرب الشمس نهاية أكتوبرمن البنك العربي الوطني بالشراكة مع "الاستشاريون لطب العيون" وبالتعاون مع جمعية "عيوني"وأشار إلى أن معدل الوفيات المرتبطة بالحرارة زاد بنسبة 23% منذ التسعينيات، مما دفع إجمالي الوفيات المرتبطة بالحرارة إلى 546,000 حالة وفاة سنويا في المتوسط، كما ارتبطت موجات الجفاف والحرارة بزيادة 124 مليون شخص إضافي يواجهون انعدامًا معتدلًا أو حادًا للأمن الغذائي في عام 2023.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أوروبا هي القارة الأسرع تعرضًا لزيادة الحرارة - وكالات موجة حر ودرجات حرارة قياسية في أوروبا - أ ف ب موجة حر ودرجات حرارة قياسية في أوروبا - أ ف ب var owl = $(".owl-articleMedia"); owl.owlCarousel({ nav: true, dots: false, dotClass: 'owl-page', dotsClass: 'owl-pagination', loop: true, rtl: true, autoplay: false, autoplayHoverPause: true, autoplayTimeout: 5000, navText: ["", ""], thumbs: true, thumbsPrerendered: true, responsive: { 990: { items: 1 }, 768: { items: 1 }, 0: { items: 1 } } });إعانات الوقود الأحفوريوكشف التقرير أن التعرض للحرارة تسبب في فقدان 640 مليار ساعة عمل محتملة في عام 2024، مع خسائر في الإنتاجية تعادل 1.09 تريليون دولار، بينما بلغت تكاليف الوفيات المرتبطة بالحرارة بين كبار السن 261 مليار دولار.
وأوضح أن الحكومات أنفقت 956 مليار دولار على صافي إعانات الوقود الأحفوري في عام 2023، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المبلغ السنوي المتعهد به لدعم البلدان المعرضة لتغير المناخ، فيما أنفقت 15 دولة على دعم الوقود الأحفوري أكثر مما أنفقته على ميزانياتها الصحية الوطنية بأكملها.
وأشار إلى أنه تم تجنيب تقدير حوالي 160,000 حالة وفاة مبكرة سنويًا بين عامي 2010 و 2022، من انخفاض تلوث الهواء الخارجي الناتج عن الفحم وحده، في حين وصل توليد الطاقة المتجددة إلى مستوى قياسي بلغ 12% من الكهرباء العالمية، مما خلق 16 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم.

مقالات مشابهة

  • سل سبيلي.. رواية ترحل في الزمان والمكان بحثًا عن الإنسان والهوية
  • 546 ألف حالة سنويًا.. 23% ارتفاعًا بمعدل الوفيات المرتبطة بالحرارة
  • سور أوروبا العظيم.. 3 شركات من إستونيا لمواجهة روسيا
  • الفن والواقع-1 الصلة بين الفن وواقع الحياة الإنسانية
  • تحذير أممي: ليبيا «خطرة للغاية» على المهاجرين… واحتجاز مقابل فدية وإساءة ممنهجة
  • (بروكسل).. قمة الوقت المناسب
  • لماذا الرعاية الصحية بالضفة محفوفة بالمخاطر؟
  • في حديقة الشاي لبدوي خليفة.. رواية تحاكي واقعا تاريخيا مأزوما
  • «كين» أقوى من نصف فرق أوروبا!