الفراغ الكبير الذي يتركه غياب النقد
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
عاصم الشيدي -
تشهد حركة التأليف في العالم العربي تسارعا كبيرا إلى حد يصعب معه متابعة المنجز في المجال الواحد، ناهيك عن متابعة جميع المجالات سواء الأدبية أو التاريخية أو الاجتماعية. وفي كل عام تقدم معارض الكتب آلاف العناوين، تكشف في كل مرة عن أسماء جديدة تدخل المشهد الأدبي عبر دور نشر مختلفة. ورغم هذا الكم الكبير من الإصدارات التي تتباين مستوياتها إلا أن القارئ العربي الجاد ما زال يشعر أن النتاج العربي في الشعر والسرد والتاريخ والنقد والسياسة (النتاج العلمي التخصصي يكاد يكون غائبا تماما) أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه الحال؛ ولعل هذا عائد إلى الجودة والثقة.
ولعل المشكلة الأساسية في كل هذا تعود إلى غياب حركة النقد التي تواكب حركة الإبداع. فرغم صدور مئات الأعمال الروائية، على سبيل المثال، في العالم العربي سنويا إلا أن الحركة النقدية الحقيقية التي تراجع هذه الأعمال غير موجودة، أو هي نادرة جدا. وحتى النقد الصحفي الانطباعي الذي كان سائدا في مرحلة من المراحل يتراجع اليوم في الصحافة العربية إلى حد توقفت فيه أغلب الملاحق الثقافية في العالم العربي وتراجعت المساحة التي تشغلها الصفحات الثقافية اليومية وحل محلها صفحات المنوعات. وأثرّ هذا في نوعية المراجعات النقدية التي تحولت إلى استعراض الرواية/ الديوان وما يتضمنه من عناوين وفي أفضل الأحوال إعادة تقديم ملخص للقصة التي تقوم عليها الرواية دون أدنى مراجعة للأسلوب ونوعية السرد، ولغته، وسياقه الاجتماعي والثقافية، وفي الشعر للصور الشعرية وعمقها وأصالتها.. إلخ.
هذا الغياب كرس بين الأجيال الجديدة سهولة الكتابة، فأصبحت مركبا سهلا لا يتهيبه أحد أبدا، ونسي الجميع، تقريبا، أن ثمة شيء اسمه النقد.
لا يمكن تصور حركة إبداعية لا يواكبها حركة نقدية، وهذا يفسر عدم تطور الكثير من التجارب الإبداعية؛ لأن الفعل التراكمي الناتج عن المراجعة النقدية غير موجود. في الغرب على سبيل المثال لا تُطبع الكتب، أدبية كانت أم تاريخية أو حتى سياسية وفكرية، دون أن تخضع قبل نشرها للمراجعات النقدية، حتى أن الصحف في تلك الدول لديها ملاحق مخصصة لمراجعات الكتب وتلقى رواجا كبيرا جدا. هذه التقاليد غير موجودة في العالم العربي، وحتى بعض دور النشر التي أرادت تقليدها تصادمت مع نرجسية الكاتب وتعاليه على النقد والتحرير.
نحن أمام خلل بنيوي واضح جدا ولا يجب أن يستمر وإلا فإن نتائجه ستكون كارثية على المدى القريب، وفي الحقيقة هي موجودة اليوم ولا نستطيع أن ننكرها. تهميش النقد، في كل المسارات أمر ينذر بالهشاشة والسطحية والانكفاء وعدم التقدم نحو الأمام.
وحتى المؤسسات الجامعية التي تنتج أبحاثا نقدية لا تكاد تخرج من مخازنها، والنادر منها يطبع، وإن حدث وطبع تبقى في دائرة محيطها الأكاديمي ولا تجد من يحررها من عباءة الأكاديمية. ومن النادر أن تقيم المؤسسات الجامعية خطوطا مباشرة مع القارئ العام الذي يستطيع أن يتماس مع لغتها بشكل واضح. أما المؤسسات الثقافية المعنية بالشأن الثقافي والأدبي فلا تكاد تعير جانب النقد والمراجعة أهمية كبرى، وإن حدثت فبشكل خجول جدا.
نحن في أمس الحاجة اليوم إلى حركة نقدية حقيقية تكون قادرة على مراجعة كل ما يحدث حولنا، النتاج الإبداعي، وكتب التاريخ التي تصدر بالعشرات سنويا، والكتب التي تناقش الشأن الاجتماعي. لا يمكن أن يترك النقادُ الساحة للخوارزميات الموجهة لتشكل وعينا بالأشياء، أو حتى في أفضل الأحوال أن تتركها لسطوة الجوائز التي باتت بديلا عن الحوار النقدي المفتوح وتقرر ما الأعمال التي على الجمهور قراءتها عبر إعطائها القيمة.
قبل سنوات كان النادي الثقافي وجمعية الكتاب والجماعات الأدبية في المؤسسات الجامعية تقيم جلسات أسبوعية منتظمة تراجع فيها الكتب الصادرة حديثا أو حتى النصوص السردية والشعرية قبل الدفع بها إلى النشر، الصحفي أو النشر في كتاب، لكن أغلب هذا الفعل اختفى الآن واستبدل بتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
كتب التاريخ بشكل خاص هي في حاجة ماسة إلى حركة نقدية عميقة جدا. الكثير من هذه الكتب يغيب عنها المنهج، وتنوع المصادر، وكيفية جمعها، وطريقة تحقيقها، والترابط بين الدليل والاستنتاج، والتفريق بين الرواية والتأويل. وهذا موضوع مهم جدا؛ لأن المراجعات النادرة التي تحدث لهذه الكتب تراجع الخلاصات؛ لكن لا أحد يناقش أدوات الكاتب ومنهجيته التي أوصلت الكتاب إلى ما وصل إليه من نتائج.
وغياب الحركة النقدية ليس شأنا عمانيا إنما هو السائد في العالم العربي، وأغلب دور النشر في العالم العربي لا تملك الكثير من التقاليد الحقيقية للنشر بالمعنى المتعارف عليه عالميا. فهي تتعامل مع الكتاب الذي يصلها بمنطق المطبعة وليس بمنطق دار النشر؛ فتكتفي بحساب تكلفة الورق والتجليد والتوزيع، لكنها لا تهتم، في الغالب، بجودة المنتج نفسه، ومراجعته وتطويره.
والواضح أن الأمر متعلق بثقافة سائدة تحتاج كلها إلى مراجعة بدءا من تفكير الكاتب في إصدار إلى محطة المراجعات الضرورية بعد إصدار الكتاب ووضعه في سياقه العام في حركة النتاج الإبداعي في مكان ما.
ما نحتاجه اليوم هو العمل المنظم على تأسيس حركة نقدية موازية لكل المسارات في حياتنا. وأن ننشأ على قبول النقد، بل والبحث عنه لتصحيح مسارات الحياة جميعها. وعلى المؤسسات الثقافية بشكل خاص أن تعمل على فتح منافذ أسبوعية وشهرية لجلسات نقدية تراجع النتاج الإبداعي. مثل النادي الثقافي وجمعية الكتاب والأدباء والجماعات الأدبية في المؤسسات الجامعية وكذلك جمعية التاريخيين والمسرحيين والسينمائيين والصحفيين وكلها مؤسسات منوط بها دعم الحركة النقدية في عمان إضافة إلى المؤسسات الصحفية.
كما أن على دور النشر في عُمان وفي العالم العربي أن تعمل على تأسيس تقاليد تحاكي التقاليد المتبعة في دور النشر العالمية من أجل تجويد المنتج حتى يتشكل لدى القارئ ثقة كبيرة بما يخرج من هذه الدور. وعندما يدرك الكاتب أن مراجعة عمله ستخضع بدورها لمراجعة عامة، يزيد حرصه على حجّته، ويقل اعتماد الساحة على الضجيج العاطفي المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي.
تنتج الحركة النقدية في أي مكان رصانة وجدية في كل شيء، كما تنتج خطابات موازية تقبل التنوع والتعدد وتفتح الآفاق لمسارات غير محسوبة عبر التجديد في الأطروحات أو في المناهج.
والحركة النقدية سينتج عنها «نقد النقد»، فحتى المناهج النقدية بحاجة بين حين وآخر إلى النقد الذي يراجع أدواتها ومدى توافقها مع المرحلة، ولكن لا يمكن أن يحدث ذلك دون تشكل تيارات نقدية وحينها يمكن أن نتحدث عن غياب «نقد النقد».
لكن هذا الكم الكبير من النشر لا يمكن أن يترك دون حركة نقدية تقومه وتراجعه وتضبط إيقاعه ومساره وهذا من شأنه أن يفرز الغث من السمين، ويقوي النتاج الذي يستحق أن يستمر والمنهج الذي يستطيع أن يقرأ ثقافتنا ويراجعها بعمق بعيد عن ضجيج المنصات وتوجيهات الخوارزميات.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المؤسسات الجامعیة فی العالم العربی الحرکة النقدیة حرکة النقد دور النشر لا یمکن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
وزير الخزانة الأمريكية يسلط الضوء على السياسة النقدية "السليمة"
السياسة النقدية.. قالت وزارة الخزانة الأمريكية في بيان اليوم الثلاثاء الموافق 28 أكتوبر، ان وزير الخزانة سكوت بيسنت سلط الضوء على الدور الرئيسي "لصياغة السياسة النقدية السليمة" خلال اجتماعه مع نظيره الياباني ساتسوكي كاتاياما.. وفقا لرويترز.
وقالت الوزارة في وصفها لمناقشات يوم أمس الاثنين: "سلطت الوزيرة بيسنت الضوء على الدور المهم لصياغة السياسة النقدية السليمة والتواصل في ترسيخ توقعات التضخم ومنع التقلبات المفرطة في أسعار الصرف".
وأضاف بيسنت أن الأمر بالغ الأهمية لأن الظروف كانت مختلفة بشكل كبير بعد 12 عامًا من تطبيق سياسة "آبي" الاقتصادية.
وتأتي هذه التصريحات قبيل اجتماع السياسة النقدية لبنك اليابان الذي يستمر يومين وينتهي يوم الخميس، حيث تتوقع الأسواق على نطاق واسع أن يحجم البنك المركزي عن رفع أسعار الفائدة.
وقال كاتاياما في وقت متأخر من يوم أمس الاثنين للصحفيين إن الرجلين لم يناقشا بشكل مباشر السياسة النقدية لبنك اليابان.