المسرحي إدريس النبهاني: المسرح سؤال دائم وقلق مستمر ومحاولة يومية لفهم ما لا يُفهم
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
عامر بن عبدالله الأنصاري -
اقترن اسم الفنان المسرحي إدريس بن خميس النبهاني بالمشهد المسرحي العُماني اقترانًا وثيقًا، فما إن يتم الإعلان عن عرضٍ مسرحي عُماني يشترك فيه ممثلًا أو مخرجًا أو كاتبًا، إلا والأنظار تترقّب عرضًا مسرحيًا فريدًا فيه من التأثير والإبهار وقوة الأداء، بدأ النبهاني مسيرته المسرحية كممثل منذ المرحلة الدراسية الأساسية بحدود عام 1992، من هنا بدأ الشغف الذي قاده إلى أن يكون أحد الثمانية المؤسسين لفرقة مسرح الدن للثقافة والفن في عام 1994م، انطلق بشغفه وأصحابه في تقديم تجاربهم المسرحية التي مرت بعديد المراحل من التطور شهدت حضورًا ملفتًا على مستوى الفعل المسرحي المحلي في سلطنة عُمان من خلال مشاركاتهم في مختلف المهرجانات على المستوى المحلي، إلا أن رؤاه كانت تطمح للبعيد حاملا في داخله رغبة جامحة في أن يخط حضوره وإبداعه المسرحي ليس محليا فقط وإنما عربيا ودوليا إلى أن قدّم أول عرضٍ متكامل في مشاركة دولية تمثلت في مهرجان جامعة فيلادلفيا بالمملكة الأردنية الهاشمية، بعرضٍ حمل عنوان «مأساة الملك أوديب» عام 2005، ومنذ ذلك الحين لم يمر عام إلا ونجد فيه النبهاني مشاركًا مؤثرًا في الحراك المسرحي العُماني.
فإلى جانب رصيده في الأعمال المسرحية، التي تناهز 30 عرضًا بين تمثيل وإخراج وتأليف، فقد شارك في العديد من لجان تحكيم المسابقات وإدارتها، ومن أبرزها «مهرجان الدن الدولي» في النُسخ العُمانية والعربية والدولية، ومهرجان الفجيرة للمونودراما، وغير ذلك.
مسيرته الممتدة التي قضاها في خدمة المشهد المسرحي العُماني تُوّجت بالعديد من الجوائز، فالأعمال الإبداعية التي عبرت حدود سلطنة عُمان وسجّل فيها النبهاني اسمه كانت محل إشادة وشهادة، ومن تلك الجوائز -على سبيل المثال لا الحصر- جائزة أفضل ممثل عن عرض «رقصة الممثل الأخير» عام 2011 بمهرجان المونودراما الجامعي، وجائزة أفضل ممثل عن ذات العرض في مهرجان الأحساء المسرحي الثاني وجائزة أفضل إخراج عن عرض «بازار» وأفضل عرض متكامل بمهرجان المسرح العُماني الخامس، وهو العرض ذاته الذي شهد أول حضور للمسرح العُماني في مهرجان فجر بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتلك جوائز فردية، أما الجوائز الجماعية فهي متعددة وكثيرة، من أهمها في مسيرة «فرقة الدن للثقافة والفن» التي يكون النبهاني نائبًا لرئيسها، فهي جائزة «السلطان قابوس للثقافة والفنون» عن عرض الفرقة المسرحي «قرن الجارية».
في التالي نُبحر مع النبهاني في وجهاتٍ ومراسٍ عديدة في عالم المسرح:
• في البداية أريد منك الإجابة على سؤال فلسفي «ما هو المسرح بالنسبة لك»؟
- المسرح هو الحياة التي نتمناها، هو الغياب الساكن في دهاليز أرواحنا، بنسخة هي الأصدق من الواقع نفسه، هو المساحة المتفردة التي أستطيع فيها أن أكون أنا لا غيري، دون أقنعة... أو بملايين الأقنعة دفعة واحدة، هو لحظة مواجهة نهابها مع ذواتنا، مع أنفسنا، ثم مع الآخر، مع الزمن، مع القيم التي نؤمن بها والتي نخونها أحيانًا، المسرح في تعريفه شبيه بنفي نزار قباني لمفهوم الحب عند الجمع حين قال:
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الأبطال
هو أن تظل على الأصابع رعشة
وعلى الشفاه المطبقات سؤال ... (وما تلاه من أبيات)
فالمسرح عندي سؤال دائم وقلق مستمر ومحاولة يومية لفهم ما لا يُفهم، لسبر أغوار عالم في عوالم.
• بالرجوع إلى سيرتك الفنية الثرية، نجد أنك تحمل «بكالوريوس لغة عربية»، هل ساعدك التخصص في دخول عالم المسرح؟
- بلا شك، اللغة العربية بحر لا ينفد من الأصوات والكلمات وعلوم المعاني والبديع والجمال الذي لا يضاهيه جمال في كل اللغات، هي عصب المسرح ومهد فلسفته الأولى، وكلما تعمّقتَ فيها كلما فهمتَ دهاليز التعبير والتأويل، كلما حلقت في كينونة من السمو الفكري والابداعي. وعليه فإن تخصصي في اللغة العربية منحني قدرة على تفكيك النصوص المقروءة بفهم مغاير عما يطرح في الأسطر الظاهرة إلى ما خلف تلك الأسطر من رسائل، وكما ساعدني على تذوق جماليات الحوار والبنية الشعرية للنصوص المسرحية، سواء عند التأليف أو التمثيل أو الإخراج. فلا تعجب حين تسمع كثيرا من النقاد للعروض المسرحية أحايين كثيرة يصرحونها علانية في قراءاتهم لسين من العروض أن اللغة نفسها هي البطل الأول، فاللغة بالنسبة لي كثيرا ما تكون واحدا من أبطالي الخفيين في العروض التي قدمتها.
•قدمت شخصية «السبع» في العرض الأخير لمسرحية «قرن الجارية»، وكنت تمر بوعكة صحية حينها أقعدتك المستشفى قبل العرض.. كيف تحوّلت على الخشبة إلى وحش كاسر؟
- لا أعلم حقيقة كيف أجيب على هذا السؤال، فأنا في كل شخصية مسرحية أقدمها أخلع عن ذاتي كينونها الإدريسي وأغوص في دهاليز ذات الشخصية بكل تفاصيلها، هي بحد ذاتها لحظة يتحول فيها الجسد إلى آلة تتجاوز الألم، وتنتصر عليه، وكسابقاتها من العروض المسرحية التي اشتغلتها فأنا أقول إن ما حدث هو أن «السبع» تلبّسني، لا أنا مَن مثلتُه، هذا هو المسرح... فيه نوع من التلبّس الإنساني الحميد وليس الشيطاني الذي يتلبس الشعراء، وهذا هو ما يحدث صدقا حين تكون مخلصًا للشخصية، يختفي جسدك وتبقى هي، نسيت مرضي، بل نسيت أنني إدريس أصلًا.
• هناك أسماء عديدة بدأت التمثيل وبرعت فيه، وما زالت إلى اليوم مرتبطة بالمسرح من وراء الكواليس، ولكنها ابتعدت عن التمثيل، أو بعبارة مؤسفة «ترفعت عن التمثيل»، لماذا برأيك؟
- أعتقد أن الأمر ليس دومًا «ترفّعًا» بالمعنى الحرفي، بل أحيانًا هو نوع من عدم التصالح مع الخشبة، أو انشغال بتجارب أخرى تمنح الشخص وهْم السيطرة، لكنني أؤمن أن مَن لمس لذة الخشبة حقًا، لا يمكنه أن يغادرها بسهولة، التمثيل ليس رتبة أدنى، بل هو جوهر المسرح... ومن يتخلى عنه، فقد تخلّى عن قلب التجربة.
• لماذا تكتب مسرحًا؟
- هاجس الكتابة بالنسبة لي غير ملتزم بحاجة أو طلب، بل هو ترجمان للحظة من الصدق الإنساني للحظة من التجلي الوجودي هو البحث عن سر لا ندرك تفاصيله، نحن لا نكتب ليقال عنا كتبوا بل نكتب إشباعا لرغبة ذات تصرخ علها تجد صدى لتلك الصرخات، حضوري الكتابي ما زال يتلمس خطاه ولا أراني بلغت المبلغ الذي أوصل من خلاله كلماتي وصرخات ذاتي سواء على مستوى النص القصصي وحتى المسرحي.
وكتابتي للمسرح جاءت لأن الكلمات لا تكتفي بوصف الحياة، بل تريد أن تعيشها في اللحظة نفسها، أكتب لأني أؤمن بأن المسرح هو المرايا التي تعكس وجوهنا المتعددة، حيث يتلاقى الواقع بالخيال، والروح بالجسد، والصدق بالكذب.
أكتب حين تغزوني آهات الذات الإنسانية الملحة بالأسئلة التي لا تجد لها أجوبة في ضجيج الحياة اليومية، حين يخنقني الصمت، وأجد في كتابة المسرح أو القصة فسحة لنزع الأقنعة، والولوج إلى أعماق الإنسان، تلك الأعماق التي تختزن الألم، والفرح، والحلم، والتمرد.
• كيف لمست تطور المسرح في سلطنة عُمان خلال 30 عامًا؟
- المسرح في سلطنة عُمان ولد عملاقا خالدا، وارثنا من اشتغالات مؤسسي الحركة المسرحية الأولى من أساتذة كبار تتلمذنا على يديهم هو شاهد حقيقي على أصالة هذا الإرث وأثره البالغة في تأسيس قاعدة مسرحية عُمانية قوية حملنا رسالتها مكملين للمسير.
وشخصيا أرى أن فلسفة تطور المسرح في سلطنة عُمان شهدت رحلة طويلة كرحلة نهرٍ هادئٍ بدأ من منبعه بخطواتٍ تتلقف مسارها بعين فاحصة واعية مدركة، وقد استمر هذا السريان دون توقف خلال العقود المنصرمة.
اليوم، يقف المسرح العُماني شامخًا، يرفع راية الإبداع في أفقٍ يتسع كل يوم، التطور الذي شهدته ليس مجرد تحسين في التقنيات أو جودة الإخراج، بل هو نمو في الوعي المسرحي، وحضورٌ أعمق في قضايا الإنسان والمجتمع، وجرأة في طرح الموضوعات التي كانت تُعتبر من المحظورات، وحضور أعم وأشمل وأكبر من خلال المهرجانات المسرحية المختلفة التي يحضر فيها الإبداع المسرحي العماني على المستوى العربي والدولي والكل يشير إليه بالبنان رافعا القبعة له تقديرا واحتراما لهذا المنجز الإبداعي، والأجمل أن الجيل الجديد من المسرحيين يحمل بين يديه شعلة التجديد، يستلهم الأصالة ويحاكي الحداثة، يدمج بين الماضي والحاضر لينسج من ذلك نسيجًا مسرحيًا غنيًا ومتنوعًا، وما يجعلنا أكثر فخرًا هو أن المسرح اليوم في سلطنة عُمان أصبح منصة حية للحوار والتغيير، له القدرة على أن يشعل في النفوس روح التأمل والوعي، إنها رحلة لا تنتهي ومسيرة كل يوم يُكتب فيها فصل جديد من تاريخ المسرح العُماني بدعم واثق من المؤسسة الرسمية التي نأمل منها الأكثر والأكبر من هذا الدعم في قادم الأيام، كما نأمل من القطاع الخاص الالتفاتة الوطنية الصادقة في الإيمان برسالة الثقافة والفن ومدى تأثيرها في توجهات الاقتصادات العالمية في السنوات القادمة، أن يكون للمسرح كيانه الوطني الكبير في سلطنة عُمان هو حلم يسير في سلم التحقق، وشخصيا أشعر أنني كنت وما أزال جزءًا صغيرًا من هذا الحلم الكبير الذي آت عليه لا محالة ليكون واقعًا نابضًا بالحياة، وإن غدا لناظره قريب.
• كيف تفرّق بين إدريس الممثل والمخرج والمؤلف؟ وأين تجد نفسك أكثر؟
- هم ثلاثة في واحد إن جاز لي التعبير، وكلهم يعيشون في ذات البعد الروحي الباحث عن ذاته، فكممثل، أنا ذلك الصوت الذي يتنفس على الخشبة، الذي يعيش اللحظة بكل جوارحه، والذي يفتح نافذة للآخرين على عوالم مختلفة من الوجدان والتجربة، التمثيل هو نبضي الأول، فهو اللقاء الحي مع الجمهور، اللحظة التي يكون فيها الإحساس والصدق هما الملكان.
أما إذا قرأتني كمخرج، فأنا ذلك المرسّم، الذي يجمع الفوضى ليخلق نظامًا، الذي يبني الرؤية ويلملم شتات تفاصيله، ليصنع ذاتا متكاملة من الإبداع ممزوجة بقافية الممثل الأصيلة.
أما الكتابة، فهي الصمت الذي أعشق محاورته، نتناجى الهواجس والجنون الذي لا يعرّف إلا بالصمت، الكتابة هي العزلة والبحث والتأمل، هي المساحة التي أفرّغ فيها ذاتي لأخلق عالما فردوسيا قائما على (ماذا لو!).
وبعده فإني أجد روحي تضرب أوصالها في التمثيل، فهو الأرض التي غرست ثمرة إبداعي الأول عليها، والهواء الذي أتنفسه، والمرآة التي أرى فيها حقيقتي، التمثيل هو قلبي النابض، وروحي المتأسية، وفرحي المكبوت، وحزني الصارخ، ورغبتي الصادقة للانعتاق من الموت الحي.
• هناك من يرى أن التجديد بالمسرح ينتهك أصالته، ما موقفك من استخدام تقنيات المسرح الرقمي أو التفاعلي؟ هل هي تهدد الهوية المسرحية أم تطورها؟
- شخصيا لا أرى المسرح الرقمي أو التفاعلي تهديدًا، بل أراه امتدادًا طبيعيًا لتطور التعبير الإنساني، والفكر البشري، حين يُوظف بوعي وفهم لجوهر المسرح، نحن لسنا في عزلة عن العالم، ولا ينبغي علينا الانسلاخ من جوهر التطور، والتقنية باتت جزءًا من نبض الحياة، فلماذا نحجمها من أن تدخل خشبتنا وتشاركنا الحكاية والفرجة؟
هي من المسلمات الواقعة ولكن لا ينبغي أن يكون تسليم القيادة لها بالمطلق، لأن المسرح، في جوهره، هو لقاء حي بين الممثل والمتفرج، هو حرارة الجسد، وارتجاف الصوت، ونظرة العين التي لا يمكن استنساخها رقمياً، التقنية لا تملك هذا النبض، لكنها قد تضيف إليه بُعدًا آخر، إذا لم تُفرغ المسرح من روحه.
الهوية المسرحية لا تُهدد بالتجديد، بل بالتكرار والتكلس. الخطر الحقيقي ليس في المسرح الرقمي، بل في أن نُقدِّس الشكل وننسى المضمون، أن ننبهر بالبريق ونغفل عن القيمة، نحن مع التجريب، لكن بشرط أن يكون الجذر حيًا، وأن يكون السؤال دائمًا (لماذا نستخدم هذه التقنية؟ وماذا تضيف إلى التجربة الإنسانية التي يقدمها المسرح؟).
وباختصار، المسرح مولود متطور في كل الأزمنة، والهوية ليست شيئًا نخشى عليه من التغيير، بل نغذّيه كي يستمر في الحياة.
• كيف تتفوق في مسرح المونودراما؟
- المونودراما تجربة وجودية كاملة، أن تقف وحيدا مجردا على الخشبة، تقف عاريًا من كل دعم، لا ممثل يرافقك يُرمّم ارتباكك، ولا مشهد جماعي يُخفي ضعفك. كل ما تملكه هو جسدك، صوتك، خيالك، وصدقك الكامل.
شخصيا لا أتعامل مع المونودراما كمجرد أداء فردي، بل كرحلة غوص داخل الذات. أبدأ دائمًا بالحفر عميقًا في الشخصية، من أين جاءت؟ ماذا تخفي؟ وما الذي يجعلها تنفجر على الخشبة؟ أتدرّب كثيرًا، لكنني لا أكتفي بالتمرين الجسدي، بل أعيش مع الشخصية قدر ما استطيع في لحظات صمتي التي أعشقها كثيرا أثناء اشتغالي المسرحي خارج أوقات التدريب، أتقمصها في صمتي الذي لا يعجب كثيرا ممن حولي، في نظراتي، وحتى أنفاسي.
أما السرّ إن جاز لي أن أسميه كذلك، هو أنني لا أُمثّل الشخصية، بل أكونها، وفي المونودراما، لا مجال للزيف، الجمهور يراك من كل زاوية، ويدرك متى تكذب ومتى تقول الحقيقة بالفعل، أما الجوائز التي نلتها من خلال هذا النوع من المسرح، فهي شهادة تقدير لهذا الصدق، لا أكثر، لكنها لا تعني لي بقدر ما تعني لي نظرة مشاهد خرج من العرض متأثرًا، ساكنًا، صامتًا لأنه رأى شيئًا من نفسه في ما قُدّم.
• ما هو رأيك بالجمهور العماني مقارنة بالعربي؟ وكيف تتعامل معه؟
- الجمهور العماني يتشاطر كثيرا من الصفات مع الجمهور المسرحي بشكل عام فهو جمهور ذكي، صبور، ومتذوق. هو ليس جمهورًا صاخبًا، ولا يُغريك بالتصفيق السريع، لكنه جمهور يتذوق بصمت، ويفكر قبل أن يحكم، ويشعر قبل أن يتكلم. يحتاج إلى أن تُخاطب عمقه، لا سطحه. وحين تصل إليه... فإنه يمنحك حبًا لا يُشترى.
وأنا لا أتعامل مع الجمهور كعائق، بل كشريك في العرض، نحترمه، لكنه أيضًا يحترم العمل حين يُقدَّم له باحتراف، ومن المهم لدينا في أعمالنا المقدمة أن ندفع بالجمهور إلى التعامل مع العرض المسرحي كـرحلة داخلية، يتأملها بتروٍ، ويتفاعل معها بطريقة ناضجة.
لذلك نحن لا نقدم له ما يريده، بل نقدم ما يحتاج إليه، مقدرين ذكاءه، دون استخفاف بذائقته، ولهذا أحرص على الصدق، على العمق، وعلى أن أُخرج من داخلي أفضل ما أملك، لأنه ببساطة، جمهور لا يُخدع بسهولة، ولا يتأثر بالزينة إن لم يكن الجوهر حاضرًا.
• هل هناك عمل مسرحي تشعر أنه الأقرب إليك وصنع نقطة تحول بالنسبة لك؟
- كل عمل مسرحي اشتغلنا عليه بصدق منطلقه التضحيات والحب والإبداع والإخلاص وكنت جزءاً منه هو بالنسبة لي لروحي أقرب ولا تمييز للأب بين أبنائه، فمن خلال مجموعة الأعمال جميعها منذ بداياتي الأولى والتي أراها ما زالت هي محطتها الأولى أراها قدمت لي عمق المحبة من المنجز لأن الروح منطلقها وصادفت أرواحا تلقتها بحب ودعمتها بصدق فكان المنجز الذي نعيشه اليوم والشكر الأول والأخير لله ولكل المحبين من المبدعين ولعائلتي الفنية فرقة مسرح الدن للثقافة والفن.
• هل مررت بمرحلة شعرت فيها بالإحباط أو بالرغبة في التوقف؟
- صدامات الحياة وتحدياتها كثيرة وعديدة، وفي كل محطة نعبرها سيرة يأس، وشعلة انطلاق، الانكسار والإحباط هو جزء من الطريق، لربما يأتيك فجأة بعد عرضٍ بذلت فيه روحك، ثم يُقابل بصمت بارد، أو بعد مشروعٍ حلمت به طويلًا، ثم تعرقله التفاصيل الصغيرة، أو حين ترى زميلًا يغادر الخشبة للأبد، ويتسلل فيك سؤال (هل يستحق كل هذا العناء؟)، كثيرا ما تثقل وسادتي بأسئلة من قبيل (هل ما أفعله يُحدث فرقًا؟ هل سأظل أركض خلف الضوء طوال عمري؟ وهل المسرح، بكل ما فيه من جمال، يُكافئك حقًا أم يستهلكك بصمت؟)، رغم كل ذلك، لم أتوقف!!
لأن شيئًا في داخلي كان يعيدني دائمًا إلى الخشبة. ربما هو الحب، أو ربما هو نوع من الوفاء لفكرة عشت من أجلها. كنت أرى في كل لحظة إحباط، اختبارًا لصمودي، وكلما تجاوزتها، كنت أخرج منها أكثر نضجًا، وأكثر قربًا من جوهر الفن.
أنا لم أسكن المسرح، المسرح هو من سكنني... فكيف أهدم بيتا لملمني شتاتا ورسمني حرفًا وإنسانا وحرا؟!
• ما هو العرض الذي بكيت بعد انتهائه؟ ولماذا؟
- الدموع هي طهر لأرواحنا من أدران الحياة وقسوة أيامها، والبكاء هو فسحة النفس الأخير الذي يسقط عن أكتافنا حمل الأمانة بعد نهاية كل عرض، فلا عجب من ذلك صدقا نحن نبكي كثيرا بعد كل عرض نقدمه ولا نخجل من ذلك، لأن البكاء هو للنفس راحة وللذات طهر وسلام.
• كونك مديرًا لمهرجان الدن الدولي، كيف تتلمّس التطور الذي قدّمه المهرجان للحركة المسرحية العمانية والعربية؟
- حين أنظر إلى مهرجان الدن الدولي، لا أراه مجرد منصة للعروض، بل أراه كائنًا حيًا نما أمام أعيننا، منذ أن كان فكرة بسيطة وحلمًا صغيرًا آمنا به، وبما سيحمله من رسالة عمانية صادقة للعالم أجمع فنية بهويتها إنسانية بروحها إلى أن أصبح ظاهرة فنية يُشار إليها بالبنان على المستويين العربي والدولي.
نتابع تطوره كما يتابع الأب نمو ابنه، ارتسمنا خطواته الأولى، نجاحه، وتأثيره، وقد لمسنا هذا الأثر في أمرين أساسيين، أولًا في خلق حالة مسرحية دائمة داخل سلطنة عمان، لم تعد مرتبطة بموسم واحد أو مناسبة رسمية، بل صارت حركة فنية مستمرة تتجدد مع كل دورة، وساهمت في ظهور حالات مشابهة من المهرجانات. وثانيًا، في بناء جسور عربية، ودولية، حيث أصبح المهرجان فضاءً للتبادل الثقافي، وملتقى حقيقيًا للفنانين من العالم أجمع دون مبالغة من مختلف المدارس والتوجهات.
مهرجان الدن الدولي شكّل منصة لتجريب الأفكار، واكتشاف المواهب، وطرح الأسئلة الجريئة. منح الشباب فرصة الاحتكاك بأسماء مسرحية وازنة، وفتح الباب أمام عروض من مختلف أنحاء العالم، لتلتقي على أرضٍ عُمانية وتتشكل منها حالة فنية حيوية.
الفخر يملؤنا جميعا، لأنه بات جزءًا من هوية المسرح العُماني الحديث، ورسالة مفتوحة إلى العالم تقول إن لدينا في عُمان مسرحًا ينبض، ويبحث، ويُراكم التجربة عامًا بعد عام، ومقدما للعالم وجبة مسرحية مميزة لا شبيه لها في الوطن العربي لنقول للعالم ونحن على مشارف الدورة الخامسة «أهلا بالعالم في سلطنة عمان».
• كيف وازنت بين الوظيفة والعمل المسرحي، ولا سيما في المسرح المدرسي ومسرح الطفل، لكونك موظفًا في وزارة التربية والتعليم وعضوا في اللجنة الرئيسة لمهرجان المسرح المدرسي الذي اختتم دورته العاشرة مؤخرًا؟
- الوظيفة عندي لم تكن عبئًا على المسرح، بل كانت نافذة أوسع للعبور إليه من جهة أخرى، جهة التربية. كوني موظفًا في وزارة التربية والتعليم لم يضعني فقط في موقع إداري، بل وضعني في تماسٍ مباشر مع الجيل القادم، مع العقول الصغيرة التي تتفتح على الحياة، وتحتاج إلى من يدلّها على جمال الفن، لا على تلقين النص.
المسرح المدرسي بالنسبة لي مساحة حقيقية لصناعة الإنسان. حين أشتغل مع الأطفال، أو أشرف على مهرجان المسرح المدرسي، لا أبحث عن «ممثل صغير»، بل عن طفل يكتشف ذاته، يتصالح مع صوته، ويجرؤ على الوقوف أمام الآخرين بثقة. هذا – في جوهره – عمل مسرحي من الطراز الأول، لكنه أكثر تأثيرًا من أي عرض على الخشبة، لأنه يخلق جمهورًا مختلفًا، ومبدعين في طور التكوين.
من هنا، اشتغالي المسرحي لم يكن بعيدًا عن اشتغالي الوظيفي، بل هما خطّان متوازيان يصبّان في نهر واحد: صناعة وعي، وتغذية ذائقة، وبناء جسور بين الفن والتعليم. مهرجان المسرح المدرسي، ليس مجرد فعالية، بل هو حصاد سنين من الإيمان بأن المسرح يمكن أن يكون أداة تربية، ومحرّك وعي، ومتنفسًا للحرية داخل جدران المدرسة وموجها تربويا فاعلا بجدارة.
أؤمن شخصيا بأن الإبداع رسالة إنسانية قيمية تربوية، والمسرح علّمني أن أجعل من كل دور أؤديه، مهما كان، ساحة للفعل الفني الصادق المحمل بالوطن وصدق الانتماء والمواطنة الصالحة، حتى لو كان ذلك في ردهة مدرسة، أو في مهرجان مدرسي، لأن التأثير يبدأ من هناك.
• أخيرًا.. هل من كلمة تختتم فيها الحوار؟
- إلى المسرح، صديقي القديم، موطني حين تضيق الأرض، مرآتي حين تتكسر الوجوه، صمتي حين يتكاثر الصراخ، وصراخي حين يكثر الصمت، شكرًا... للحياة التي منحتني إياها، شكراً لأنك علّمتني الإصغاء، لا فقط للآخرين، بل لما في داخلي من أسئلة، شكراً لأنك جعلتني أرى الإنسان في صورته المجردة، الحقيقية، المتناقضة... تمامًا كما هو.
للمسرحيين القادمين بلهفة الضمآن للماء، لا يغرنكم التصفيق... بل ابحثوا عن الصدق، المسرح ليس مكانًا لعرض الذات، بل مساحة لاكتشافها، احترموا الخشبة، تحترمكم أرواحكم، ولا تخونوا أنفسكم، لا تصعد الخشبة دون استعداد صادق لأن تخسر شيئًا من روحك كل مرة، لكن صدّقني... ستكسب ما هو أثمن.
«فنحن زائلون.. والمسرح باق ما بقيت الحياة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مهرجان الدن الدولی المسرح الع مانی المسرح المدرسی مهرجان المسرح للثقافة والفن المسرحی الع على الخشبة بالنسبة لی المسرح فی فی مهرجان أن المسرح جمهور ا من خلال أن یکون مسرحی ا مسرح ا ع مانی إلى أن عن عرض
إقرأ أيضاً:
د. كامل إدريس يطلع على نتائج زيارة وفد وزارة المالية الي امريكا
اطلع رئيس مجلس الوزراء د. كامل إدريس بمكتبه اليوم على نتائج زيارة وفد وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قدّمها وزير الدولة بالوزارة المستشار محمد نور الدائم في تنوير شامل حول اللقاءات التي أجراها الوفد بعدد من المؤسسات المالية الدولية. و ثمن رئيس مجلس الوزراء الجهود التي تبذلها وزارة المالية في الانفتاح الخارجي، مؤكداً دعم الحكومة الكامل لمساعي استعادة التعاون الدولي وتهيئة المناخ الاقتصادي لتحقيق التنمية المستدامة في البلاد من جانبه أوضح وزير الدولة أن الزيارة شملت اجتماعات مهمة مع مسؤولي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث تمت مناقشة جملة من القضايا الاقتصادية المتعلقة بالسودان، أبرزها ملف إعفاء الديون، وإمكانية استئناف الدعم الفني والمالي للبلاد، إلى جانب بحث فرص التعاون في مجالات التنمية والإصلاح الاقتصادي. وأشار إلى أن الوفد قدم عرضاً متكاملاً عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية في السودان، وما خلفته الحرب من آثار إنسانية وتنموية، مبينا أن اللقاءات شهدت تفهماً واسعاً من المؤسسات الدولية للتحديات الكبيرة التي تواجه البلاد في هذه المرحلة. وأضاف المستشار محمد نور الدائم أن البنك الدولي حدد اجتماعاً خاصاً بالسودان في 18 نوفمبر المقبل لمناقشة سبل الدعم الممكنة والترتيبات الخاصة باستئناف المشروعات المتوقفة، مؤكداً وجود توافق مبدئي على إعادة الارتباط الفني ورفع مستوى التعاون التدريجي مع السودان. وأشاد وزير الدولة بما وجده الوفد من تقدير وتعاون من الشركاء الدوليين، مؤكداً أن المرحلة المقبلة ستشهد جهوداً مكثفة لإعادة بناء النظام المالي والاقتصادي وتطوير القدرات الفنية، بما يعزز مسيرة الإصلاح ويضع الاقتصاد الوطني على الطريق الصحيح. سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب