لجريدة عمان:
2025-10-29@16:48:23 GMT

السّردُ والهويّة

تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT

السّردُ والهويّة

سعيد بنكراد-

تحيلُ الهويّة في مفهومها العام على ما يشبه ماهية شاملة تُكثَّفُ داخلها «ذاتيّات مقوّمة» (الإمام الغزالي)، أي مجموعة من السمات التي تقلّص من الوجود الحقيقيّ للكائن لكي لا تحتفظ منه سوى بما يمكن أن يكون دالا، في المجرد والملموس، على كيان قابلٍ للعزل. إنها حاملةٌ لأدوار النّاس الاجتماعية وسلوكهم وحالات الانتظار فيها.

لا يتعلق الأمر بتصنيف خارجيّ شبيه بما يصْدُق على الأشياء وموضوعات العالم، بل هو محاولة للإمساك بما يشكّل العنصر الدائم في الفرد والجماعة، ما يتوارثه النّاس باعتباره خبرة حياتية مشتركة، أو ما يحيل على مواقف وممارسات وشعائر لا يُدرَك معناها إلا داخل ثقافتهم. يتعلّق الأمر بمتغيرات تلحق الماهية Variation éditique دون أن تؤثر في جوهرها. إنه الانتقال من موضوعات محسوسة من أجل الإمساك ببنيتها «الخالصة»، وذاك شرط التخلّصِ من العرضيّ فيها.

ومع ذلك، فإنّ جوهر الهويّة لا يكمن في الاستغراق الكليّ في محدّدات أولية تُصنِّف الكائنات حسب القسم أو الفصيلة، إنها، على العكس من ذلك، مستمدةٌ من قدرتها على النمو والتطور داخل المتاح الحضاريّ الإنسانيّ، وذاك ما يشكّل غناها. ستكون الهويّة وفق ذلك هي الحدّ والتمدد، هي الواحد والمتعدد، وهي الكليّ وفروعه. بعبارة أخرى، إنها ما يميّز ويخصّص وما يرسم قواعد الانتماء الجمعيّ أيضا: إن الذي لا يشبه أحدا يشكو من خصاص في الكينونة. وضمن هذا المسعى الوجودي لعبت المحكيات التي يتداولها الناس دورا مركزيا في تشكل الذات باعتبارها «أنا» مستقلةً، وباعتبارها جزءا من «نحن» هي الامتثال والضابط الاجتماعي، فالاستقرار في الأرض صيغة مدنيّة للتحكم في زمنية قابلة للتداول ضمن عيش مشتركٍ.

وبذلك كانت الهويّة استحضارًا لماضٍ، لا إسقاطًا لآتٍ، فنحن نتلمس وجودها في ما تحقق أو ما يعتقد النّاس أنه تحقق فعلا. فالزمنيّة شرط الإنسان في الأرض. إنّها ليست موضوعًا لوعي فارغ، بل هي في الأصل إحالة على القدرة على التصرّف في الزمن وتوزيعه حسب حالات النفس (الحنين والندم والترجي والتحسر) أو حالات التتابع في الكون (الماضي والحاضر والمستقبل). إنّ زمنية الإنسان ليسَت مُستمَدّةً من كَونِه يعيشُ في الزّمنِ، بل لأنّ الزَّمن، على عكس ما يَحدثُ للموجوداتِ الأخرى، يَختَرِق وُجودَه كُلَّهُ، إِنَّه يَستوْعِب كِيانَه وينْتَشر في أشيائه وسُلوكِه وجسَده وفي أحاسيسِه.

إنّه زمنٌ دَاخلِيٌّ، إِنَّه الزّمنُ النّاطقُ في «المعيشِ»؛ إِنَّ الإنْسانَ زمنيٌّ، بالمعنى الذي يَجعلُنا نَقُول عن كَائِن ما بِأَنّه ترابيّ أو مطّاطيّ، أيْ مَصنُوع من التّراب أو من مادّةٍ قابلةٍ للتمدّدِ، فتلك «طبيعتُه»، إنّه ليس شيئًا آخر غير ما يُفرِزه الزّمنُ. لذلك كان الزَّمن في الوجودِ حَقِيقَةً لا تدركها الأبصار، إنّه يُدْرَكُ فقط من خلال الآثار التي يخلِّفها في أجسادِ النّاس ومحيطِهم. فلكي «نَرى» الزّمنَ ونلمَسه علينا روايتَه، أي تمثيلَه في محكيّاتٍ نكشف من خلالها الحالات والتحوّلات. «فالحياة لا تُعاش فقط، إنّها تُروى أيضًا « (لويس مينك).

وذاك هو الرابط المركزيّ بين الزّمن والمحكيّ. يُعدّ المحْكيّ، أيْ كُلُّ النَّشَاطِ الذي يَعتَمِد السَّرْد أَدَاة لِتمْثِيل التَّجْربةِ الإنْسانيَّة، جُزْءًا من آليَّات التَّوَسُّط بين الإنسانِ وما يأتيه من خارجِه. لقد كان وسيلتَه في فهم البدايات وتوقّعِ النّهايات أو تلافيها، وكان أيضًا وسيلةً لنقلِ الخبراتِ والمعارفِ، وبذلك كان شاهدًا على قدَر الفناء عنده أيضًا. إنّ المحكيّاتِ وحدها قادرةٌ على تحويلِ التّجربةِ الإنسانيّة إلى مُمارسةٍ تَتحقّقُ في الزّمنِ ووفق إكراهاته. فلن «يُصبحَ الزّمنُ إنسانيًّا إلَّا عندما يَستَوْعِبُه التَّمثيلُ السّرديُّ. وبالمثل لن تكون دلالةُ المحكيّ شيئًا آخر غير قُدرتِه على رسْم معالم تجربةٍ زمنيّةٍ». إنّه سبيلُ الإنسان إلى الهروبِ من زمنيّةٍ حاضرةٍ تستَعصي على الضّبط، إلى أخرى منتهيةٍ في الذاكرة فقد روّضها السّردُ.

وذاك كان شرط الإنسان في الأرضِ، لقد أُلقيَ به لحظةَ الخلقِ في حكاياتٍ هي التِي ستُؤثِّث الزَّمن وتحْشوه بِقيم تُمجِّده وتُعلِي من شَأنِه و«تُكرّمُه»، وتضعُه شاهدًا على حَقيقَة طارِئة تَتطوَّر خَارِج إِكْراهات الطَّبيعة. فلا مَوطِن للحقائق التي يبْنيهَا النَّاس ويعْتقدون بصِحَّتهَا سِوى الحكاياتِ والأساطير وما نسجتْه الذَّاكرةُ من حِكمٍ وأمْثَالٍ هي ذَاتُها مُمكنَاتُ مَحكِيّ قابلٍ للتّشخيص. وذاك «ما أضْفَى على المحكيّ منذ البدايةِ طابعًا قُدْسِيًّا، فالخبْرة الحياتية عِنْد الشُّعوب البدائيَّة كانت تُنْقَل عَبْر الصَّوْتِ السّرْدِيّ» . وهذا معناه أنّ عالـمَنا لا يُوصفُ بالمفاهيمِ، ولا يُفسَّر بنظريّاتِ العلمِ وحدها، إنّه في حاجةٍ أيضًا، لكي يُصبحَ إنسانيًّا، إلى محكيّاتٍ يتعلّم من خلالها النّاسُ كيف يَصِفُون خِبرتَهم داخلَه. لذلك «تعّددَت حكاياتُ العالمِ وتنوّعتْ أشكالُها» . فنحن لا نحتفظ مما وقع إلا بما هو جدير بالتذكر.

والجدير بالتذكّر ليس نسخةً معزولةً، بل هو نموذجٌ عامّ لخبرةٍ تضمُّ داخلها ما تحقّق، أو كان مِن الممكنِ أن يتحققَ في سلوكاتٍ مُفردةٍ: لا يتحوّل الحبّ إلى قيمةٍ مجرّدةٍ إِلَّا إِذَا تَخلَّصَ من كلِّ الحِكايَاتِ المخصوصةِ لهذا العاشقِ أو ذاك، حينها يُصْبِحُ دالًا على قصَّةِ العِشقِ، كما عاشَها كلُّ العُشَّاقِ في الأرضِ.

وهذا ما يفسّرُ كون الإنسان لم يتمكّن من استعادة زمنه «القُدسيّ» إلا عنْدما تعلّم كيْف يسردُ، أي كيف يُميّز في سلوكه بين السّابق واللّاحق، ويحدّد الأمداء الفاصلة بينهما. وذاك يعني ألّا وجود «للمجرّد» فيه، فالطّابعُ الزمنيُّ في الوجود لا يُمكن أنْ يكشف عن نفْسه خارج ما يقوله النّشاطُ السّرديّ عنْه. فنحن نروي تفاصيل حضورنا في ذاكرتنا وذاكرة الآخرين لكيْ نستحْضر ما مضى أو نصف ما نحْن فيه أو نُسقط ما يُمْكن أنْ يقع. إنّ الإنسان يُودعُ حالات الجسد والـمحيط وتحوّلاتهما في قصصٍ ترصدُ ما انقضى من الكمّ الزمنيّ الافتراضيّ وما فضل منه. إنّنا نحكي خوفا من الوحدة أو لنتقاسم مع الآخرين وحدتنا.

وتلك صيغة أخرى للقول، إنّ السّرد وحده يُمكّن الإنسان من العيْش خارج مدارات ذاته، إنّه يصبّ مُجمل انْفعالاته ومواقفه في هُويّاتٍ بديلةٍ تتبلْورُ ضمن تخييلٍ مُوجّهٍ إلى بناء نصٍّ مُكتفٍ بذاته. وهذا ما يجعل السرد وسيلة من أجل الاحْتماء بالذّاكرة ووسيلة لمُواجهة الآتي أيْضا. إنّه الذّهابُ إلى الماضي من أجْل عودةٍ آمنةٍ إلى الحاضر. إنّه بذلك يـمْنحُ الحياة معْنى، إنّه يُعيدُ بناء ما وقع، أو ما يُفترضُ أنّه وقع، ضمْن مُمكنات تتحقق على هامش المعيش أو داخله. فقد يحدث ألا نكتشف «حقائق» وجودنا إلا استنادا إلى ما تُقدّمه استيهاماتُ التّخييل. فأصالةُ التخييل السرديّ ليستْ مستمدّة من «غرابة» العوالم التي يقومُ بتمْثيلها، إنّها في واقع الأمر تُقاسُ بقُدرته على العوْدة بالذّات إلى شرْطها الواقعيّ، إلى ما يذكّرها بهويّتها في الحاضر.

لذلك لم تكن الشّخصيّاتُ التي تُبنى في التخييل، سوى مجموعةٍ من الأحكام العامّة التي تُسقطُ على ممثّلين يقومون بأدوارٍ مودعةٍ في النّظام القيميّ. إنّها في حقيقة الأمر «كياناتٌ ذهنيّة»، أو هي «ممكناتٌ» سلوكيّةٌ انفصلت عن أساسها الحدثيّ لكي تتحوّل إلى نماذج للاحتذاء أو الإدانة. فنحن نبحثُ في المحكيّات عن صورنا، عن نظيرنا في الخير والشرّ والشّجاعة والجبن والصّدق. هي ذي الحلقة التي يتم الربط من خلالها بين حياة الأفراد وبين ما تعادُ صياغته لكي يكون دالا على وعي الجماعة، أي ما يشكل هوية نُدرك جميعا أنها لا تستوعب كلّ ممكنات أفعالنا الفردية، ولكنّنا نُعدها مع ذلك شرطا في تنظيم تجربتنا الحقيقية أو المستهامة: لا تكترث العامة، وجزء من الخاصة أيضا، للسجل المدني الحقيقي لعمر بن الخطاب، فهو عندهم ليس شخصا بل هو المثل الأعلى للعدل كما تسرب ذلك إلى الكثير من المحكيّات لا كما كان ذلك في تفاصيل الحقيقة.

وبذلك كانت الهويّة ذاكرة بمضمونٍ زمنيٍّ / قيميّ ممتدٍّ نحو ما كان أو ما يفترض أنه كان، إنّها تشتملُ على وضعياتٍ وأحداثٍ ومواقف ورموزٍ وكلّ ما يمكنُ أنْ يضمه متخيلٌ أمةٍ ما. ففي هذا الزّمن تولد الهويات وتتطور وتتحول. لذلك، لا تتمُّ استعادة تفاصيلها من خلال إحياء المفاهيم، فالمفاهيم كيانات تشكو من خصاصٍ في التّشخيص، بل يمرُّ بالضّرورة عبر تعميمٍ للحكايات، فالسرد احتفاء بالزمن، إنه «تنشيط» لذاكرة تتحرر داخله من القيد المرجعيّ، أي مما يشدّها إلى «وقائع في حاجة إلى إثبات».

وتلك أيضا إشارةٌ إلى أنّ بناء الهويّة يتمُّ في الغالب على مستوى المتخيّل لا على مستوى الواقع، فالمتخيّلُ وحدهُ قادرٌ على التّحايل على الزّمن الفيزيقيّ وتحويله إلى كميّاتٍ يُعيدُ السّاردُ تشكيلها وفق هواهُ. إنها شرط من شروط التنويع من تجلياتها ومظاهرها. إننا نكتشف «وحدتنا» في السرد لا في تفاصيل معيشنا اليومي. فنحن لا نُدرك حقيقة ما قمنا به إلا عندما نرويه لأنفسنا أو للآخرين.

وعلى هذا الأساس، لن تكون الهويّة انتماء قيميا أو إحساسا وجدانيا فحسب، إنها أيضا القدرةُ على بناء نماذج يعيش بها الناس. فهم لا يحيون فقط، إنهم يرغبون أيضا في بناء صيغٍ حياتية مضافة يُهرعون إليها في ساعات الحزن أو الوحشة الوجودية. قد يدفعنا ذلك إلى القول إنّ تاريخ الهويّات في الغالب هو تاريخ للأهواء وليس رصدا لحقائق تشكل خاصيات حقيقية تعود إلى كيان ما.

وذاك ما فطن له الكثيرُ من الدُّعاة الإسْلاميّين المنتشرين في كلّ الفضاء الثقافي العربيّ. لقد نبذُوا سبيل الوعْظ القائم على الوعْد والوعيد والتّرْغيب في الـجنّة أو التّهديد بالنّار. إنّ المحكيّات القديمة عندهم هي الـمنْفذُ المفضّلُ إلى قُلُوب النّاس. وفي هذه الحالة، تُبنى الهويّة، وفق مُحدّداتٍ في الدّين لا تُصْبح مرئية في ذاكرة الـمُؤمن ووجْدانه إلا من خلال اسْتعادة ما قام به الصّحابةُ الأوّلون ومآثرهم في العدْل والوفاء والأمانة. فدون الإحالة على «هويّة مفترضة» لن يكون لهذا الخطاب أيّة قيمةٍ، فـــ«الـطّابع المثليُّ»، الذي يُعدُّ في الأصل تعميما لخانة سلوكيّة عامّة، يفرضُ على القصّة الإحالة على عوالم توجدُ خارج أحداثها المباشرة، فهي دعوةٌ صريحةٌ إلى الانتماء إلى نموذج أخلاقيٍّ يكونُ مفصولا عن إكراهات الزّمن ومقتضياته لأنّه ليس من التّاريخ الفعليّ بل من الدّين.

ومن هذه الزاوية كانت الهويّة موقعا داخل الذاكرة السرديّة في المقام الأول، أي سيرورة تُبنى ضمن ممكنات الفاعل، الفرديّ أو الجماعيّ، ما تحقق منها أو ما ظل مجرد أحلام لن ترى النور أبدا. إنّها «قصة» محتملة، ما يميز وما يربط أيضا. تماما كما هي أدوارنا ووظائفنا برامج سردية ممكنة أو مستهامة فقط. فنحن أسرى لغات ومحكيّات سابقةٌ علينا منها نتعلمُ كيف ننتمي إلى محيط ثقافي ستظلّ الذاكرةُ خرساء خارجه. إنّنا نولد قبل الولادة في إرث الوالدين، إنّنا نأتي بذلك إلى الحياة داخل نماذج سلوكيّة جاهزة قد لا نتخلص منها أبدا. إنّها مجموعة من «القصص التي لم تُرو بعد»، ولكنّ وقائعها مدرجةٌ داخل المحتمل السلوكيّ والأخلاقيّ، وذاك هو عصب الهويّة.

استنادا إلى ذلك وجب تحديدُ الروابط الخفية بين «وقائع مخصوصة» تعود إلى الفرد المعزول، وتلك قصته في الحياة كما يريدها هو، أو كما يتوهم ذلك على الأقل، وبين عموم « تجربة جماعيّة» قابلة للتداول ضمن سياق قيميٍّ أوسع من دائرة الذات وملكوتها المحدود، وذاك هو النص الكبير الذي يحتضن مجموع القصص التي يستمدّ منها البناء المجتمعيّ شرعيّته، وذاك مهد هويّة تتغذى بكلّ المحكيّات الصغيرة، كما يتغذى النهر بالجداول الصغيرة. لذلك لن تكون الذاتية ممكنة إلا في حدود وجود حاضن يُـمدّها بما يوحي بالأبعاد الموضوعية داخلها. وذاك هو البعد الهويّاتي فيها.

وهذا معناه أن الواجهة البرانيّة ليست هي ما يحدّد «جوهر» الهويّة، فالكائنات الفانية تنمو وتتطور وتكبر وتكون عرضة للترهل والتكرش والتجاعيد والشيخوخة، دون أن تكون غير ما كانت عليه منذ صرخة الولادة الأولى إلى لحظات الممات الأخيرة. وذاك هو الفاصل بين شكلين من أشكال حضورنا في الفضاء العمومي: إنّ الذات واحدة في الظاهر فقط، أما في تفاصيل وجودها فهي موزعة على ما يأتيها من خارجها وعلى ما تبنيه وفق إرادتها الخاصة.

وذاك هو الأساس الذي استند إليه بول ريكور في التمييز داخلها بين العينية والإنية: إنّ هوية الفرد مُودعةٌ في «عيْنيّةٍ» تقْتات من الطّبْع ومما اكتسبه من مُحيطه، وما تحصّل له من مجْموع الاسْتعْدادات، الفيزيقيّة منها والنفسيّة والاجْتماعيّة، وتتضمّن أيْضا كلّ أدْواره ووظائفه في الحياة. ولكنّها مودعة أيضا في «إنيّة» تشيرُ إلى نصيب الفرد من الأصالة والاستقلالية في الرأي والسلوك وموقفه من نفسه ومن الآخرين.

تدل العينيّة في معناها العام على الشّيء ذاته أو على الشّخص ذاته، وقد تعني التّماهي في حالات التداخل بين شيئين أو كائنين. وقد تعني الثّبات في الزّمان أيضا، فالشّخص يكون هو ذاته على امتداد عمره الافتراضيّ. هناك في جميع هذه الحالات استمراريّة دالّة على ديمومة في الزّمان. والديمومة لا تُلْغي التغيّر، إنها تستوعبه ضمن ما يمكن أن يظل دالا على الشّيء ذاته في حالات تحوُّله في الزّمان. إنّنا نتطور كأفراد، ولكن ذلك يتمّ ضمن مقتضيات المجتمع وإكراهاته.

إنّ الأمر شبيه عند بول ريكور «بمحرك غُيرت كلُّ أجزائه، ولكنه ظل محافظا على بنيته الأصلية» ، أو هو شبيه بــ«تيزي» عند قدماء اليونان، تلك الباخرة التي غُيّرت كلُّ قطعها، ولكنها حافظت على هويّتها، وظل الناس يتعرفون عليها بصفتها تلك. وهي حالة النهر أيضا، فهو يحافظ على وجوده وعلى سريره رغم تغير مياهه وتعدد الروافد التي تُغذي مجراه. لذلك نستعين بالألبوم العائلي لكي نقبل ما صرنا عليه. يتعلق الأمر، في جميع هذه الحالات، بتغيّر يصيب كائنات لا تتغيّر.

ووفق ذلك، تسْتند العينيّة إلى ما يُصنّف ضمن الطّبع caractère، و«الطّبْع هو مجموع السّمات المميّزة التي تُمكّننا من التّعرف الدائم على كائن إنسانيّ باعتباره هو ذاته. فمن خلال السّمات الوصْفية يُراكم هويّة عددية ونوعية، أي ما يُحدد الاستمراريّة والديمومة في الزّمان». ويندرج ضمن هذا الطّبع الكثير مما يرثه الفرد من محيطه، ومنه الوظائف بجميع أنواعها، فهو في المجتمع معلم أو أستاذ أو نجار أو فلاح أو عامل. أو ما يعود إلى بعض الصّفات التي ترتبط بالفرد وتُحدد جزءا كبيرا من هويّته.

بل إن أمْزجة النّاس يجب أن تُصنّف ضمن الطّبع، فصفات الطيّب والمتسامح والمتشدّد هي جزء من هويّة عينيّة. وقد تكون السّمات الجسديّة ذاتُها، في حالات السّلامة وفي حالات الاحتيّاجات الخاصة، جزءا من هذا المظهر الثّابت عند الفرد. فنحن في جميع الحالات، نُشبه الآخرين من خلال ما ننتمي إليه ونُعيد إنتاجه في سلوكنا بما يُرضي محيطا نتبنى قيمه أو نفعل ذلك اتقاء لشرّه، لا من خلال ما بلورناه بأنفسنا.

وضمن هذه الهويّة أيضا تتبلور كل القيود التي يفرضها المجتمع على أفراده، فالفرد يرتبط في المعيش اليوميّ مع الآخرين من خلال الضمير المجهول «هم» (on)، فذاك شرط وجود هويّة جماعيّة يفرضها العيش المشترك وتنتشر في محكيات الناس. يتخلى هذا الضمير عن دوره النحويّ لكي يُصبح «رأيا»، ما يتداوله النّاس باعتباره حقائق لا يمكن للفرد الخروجُ عن سلطتها. فمن خلاله يحضر جميع النّاس أمامي دون أن أرى واحدا منهم. إنّه القوة الاجتماعيّة المجهولة التي تحدد لنا ما نقوله وما نفكر فيه، وهي التي تتحكم في أذواقنا وفي مواقفنا وآرائنا. يتخلص الدازاين فيها من الشرط الصعب في أن يكون هو ذاته، ليُسْلم قياده لدكتاتورية «الهُم»، لست أنا، «لقد مُنحْتُ لنفسي، حسب هوى هذا الضمير، فأنا «هم»، الآخرون الذين لا أعرفهم» (هايدغر).

إنّنا لا نختار الطّبْع، إننا نتعلّم كيف نبْني شخصيتنا استنادا إلى توجيهاته أو إكراهاته. وهي صيغة أخرى للقول، إنّ «الولادة حاضن للطّبع، إنّ الطّبع طبيعة موروثة لا تتغير». لذلك كانت السّمات المميّزة حاصل مجموع العادات التي تعلّمها الفرد من محيطه، وحاصل التّماهي مع شخصيّات التّاريخ أو شخصيّات التّخييل، وهي أيضا ما يُمكن أن يأتي من الانتماء إلى عقيدة أو نظام قيميّ. فلا وُجود لهويّة تستند إلى ما يمكن أن يُبلوره الفرد اعتمادا على اختياراته الخاصة فقط، إن الهويّة الفرديّة مسْتوحاة، في جزء كبير منها، من «نحن» كبرى، هي التي تُوجّه الأنا وتتحكّم في الكثير من اختياراتها. ما يُصنّف عادة ضمن «الضابط الاجتماعيّ»، أو «الرّقابة المستبطنة» التي يفرضها العيش المشترك.

ولكن الهويّة قد تكون «إنيّة» أيضا، إنها تعُود إلى ما يُميّز الذّات عن غيْرها؛ يتعلّقُ الأمرُ بما ما قامت به من تلقاء نفسها، ما كان من اخْتيارها وقرارها. تشير هذه الهويّة، على النّقيض من الأولى، إلى كلّ ما هو أصيل في الذّات: إنها تُؤكد الاستقلاليّة والحريّة والاختيّار الفرديّ. إنّها دالة على القرار الخاص، وعلى القدرة على تحمل مسؤوليّة ما يقوم به الفرد، كما تشمل قدرته على تحمل تبعات أحكامه الأخلاقيّة. إنّها تفترض تمييزا بين الذّات وطبْعها، بين ما كسبته وما اكتسبته. إنّها تُشير هي الأخرى إلى ديمومة في الزّمان، ولكنّها ديمومة تتحقق وفق ما تأتي به اختيارات الذّات، إنّها ديمومة منبعثة من داخل يجعلها سيّدة أفعالها، وسيّدة قدرها الخاص أيضا. إنّها قُدرة المرء على أن يضع حدّا لسلوك أو موقف ليتحوّل إلى غيره بمحض إرادته.

بعبارةٍ أخرى، إنّ الرّغْبة في الانْفصال عن الـمُكْتسب وعن الذي جاءنا من غيرنا، لا يُمْكن أن تتحقّق إلّا من خلال قُدْرتنا على سرْد حكاية نبني فيها إنيّتنا، أيْ «أنانا»، كما رغبت أن تكون خارج تأثير الآخرين. هناك إحساسٌ عند المرء ينبّههُ إلى أنّه يكبر وينْمو ويتغيّر وتتبدّل أوضاعُه، ولكنّه يُحسّ دائما أنّه هو ذاتُه، ويتعرّفُ عليه النّاسُ بصفاته التي عهدوه عليها. فهذا الإحساس هو المولّدُ لمحكيّات الإنيّة. «فعنْدما أمنح طبعيّ بُعْدا سرْديّا، فإنّني أُعيد له حُرّيّته التي دمّرتْها الاسْتعْدادات المكْتسبة، وكُلُّ أشكال التّماهي. وبذلك تضعُ الإنيّةُ فاصلا بين الذّات في أصالتها وبين ما جاءها من الطّبع المكتسب.

بعبارة أخرى، تُعد الإنيّة رحلة من أجل البحث عن «الخلاص»، ما يعني الانزياح عمّا تعلّمه المرء من محيطه وممّا ورثه بغاية استعادة «أنا» مستقلّة تُعبّر عن اختيارات تخص الذّات وحدها. وبطبيعتها تلك، فإنها تتحقق في السّرد ومن خلال آليّاته في تدْبير الزمنيّة وتقطيعها وفق حالات حياتيّة هي وحدها الشاهد على وجودها.

وهذا معناه أنّ الهويّة ليست معطى مباشرا، أي ما يُمكن أن يستحضره الفرد باعتباره خاصيّة مستقلّة في تشكلّ حياته، إنّها تستدعي حالات «التوسّط القصصي». إنّنا من خلال السّرد «نقيس ما لا كينونة له» كما يقول ريكور. إنّ الحلم ليس حقيقة، بل هو إسقاط لحياة مفترضة لا يمكن بطبيعتها تلك أن توجد، ومع ذلك كان السّرد قادرا على منحها وجها مشخّصا، كما هي أحلام اليقظة وكلّ ما يبنيه النّاس في الوهم أو الاستيهام.

ويعتقدُ ريكور أنّ «الصُّورة المثلى للإنيّة تكمنُ في احترام المرْء لكلمته وصوْن ودّ النّاس وصداقتهم في كُلّ الظُّروف، رغْم إكْراهات الطّبْع والعادة»، إنّها تعبيرٌ عن موقفٍ أخلاقيٍّ. ولن تستقيم هذه الإنيّةُ إلا من خلال قصّة تستطيعُ الذاتُ داخلها الفصل بين نصيبها في اختياراتها وبين ما جاءها اكتسابا. إنّنا نُطلّ على أنفسنا من خلال محْكيّات نستعيد من خلالها ما قمنا به قصدا أو دون رغبةٍ منا. تولد الهويّة الإنيّة في اللحظة التي يتساءل فيها الفرد من أنا؟ وماذا فعلت بحياتي؟ حينها سيروي قصته، أي سيعيد ترتيب كل الأحداث التي عاشها وفق غاية مسبقة محددة في بناء هوية مستقلة.

لذلك تتضمن الهوية السردية ما يأتي من العينية وما تقوم الإنية ببنائه. تستعيد الأولى قصتها ضمن قصص الآخرين، أما الثانية فتحاول بناء قصة على هامش المشترك أو ضدا عليه. إنها القدرة على نسج محكيات دونها ستظل الهوية عرضة للضياع أو عرضة للتشويش.

لذلك «تتجلّى الوظيفة التّوسطيّة التي تقوم بها الهويّة السّرديّة بين قطبي العينيّة والإنيّة في المقام الأول في التّنويعات التّخييليّة التي يعمل المحكيّ على إخضاع الهويّة لها. إن المحكيّ لا يسمح بهذه التّنويعات فحسب، إنّه يقوم باستثارتها والبحث عنها، لذلك كان الأدب مخبرا كبيرا لتجارب فكريّة هي عماد الهويّة السّرديّة».

بعبارة أخرى، «إنّنا لا نأْتي إلى أنفسنا بشكلّ مباشر. فشفافيّة الذّات أمر مستحيل (وهذا ما تؤكّده استحالة كتابة سيرة ذاتيّة تقول الحقيقة كلّها عن الذّات). فنحن دائما في حاجة إلى وسائط لكي نُدرك ما نحن عليه، لذلك عندما يحكي المرء عن نفسه، فإنّه يفهم نفسه وهو يواجه نصوص حكاياته». يتعلّق الأمر بما كان إيكو يُسمّيه «الوظيفة الاستشفائية»، «فنحن نهرب، عندما نقرأ روايات، من القلق الذي ينتابنا ونحن نحاول قول شيء حقيقيّ عن العالم الواقعيّ». أو هي حالات «التّطهر» التي تمنح الذّات فرصة لكي تواجه نفسها بنفسها؛ وتلك هي أيضا وسيلة الطبيب النّفساني للدفع بالذّات العليلة إلى سرد قصتها، فذاك سبيل فعّال لاستعادة هويّتها الخاصة. فالمحكيُّ هو الحدثُ وليس قائله. إنّه رابطٌ بين السّرد وبين إمكانيّة تشخيصٍ مرضٍ يوصفُ بالمفاهيم. حينها «تجدُ الأحْداثُ التي يرْويها المريضُ لطبيبه، موْقعا ووظيفة في المحكيّ الذي يقترحُه هذا الطبيبُ على مريضه، وذاك هو السبيلُ إلى علاجه» .

وقد مثّل مفهُوم «الهويّة السّرْديّة» تحوُّلا مركزيّا في التعاطي مع الإرْث الماضويّ كُلّهُ، بخطاب التّاريخ فيه وبنصوصه التّخْييليّة أيْضا. «فكُل نشاطٍ إنْسانيٍّ هُو من طبيعة سرديّة»، ما يعُود إلى الذّاتيّة الفرْديّة التي تبحث عن انسجام حياتها وتماسكها من خلال بناء قصّةٍ، وما يعُود إلى الوعْي الجمْعيّ الذي ينشُد بناء قصّة شعْبٍ أو أُمّةٍ. لذلك لم تعُد هويةُ الشُّعوب تُقاسُ على ما وقع فعْلا في الماضي، بل أصبحت أيْضا حاملا لكلّ ما أنْتجتْه الذّاكرة من محْكيّات. ومعنى ذلك أنّ هوية الشُّعوب لا تُقاسُ على ما وقع فعْلا في الماضي، بل أصبحت أيْضا حاملا لكلّ ما أنْتجتْه الذّاكرة من محْكيّات. ومن هذه الزّاوية كانت «الهويّة السرديّةُ» جامعا بيْن نُصُوص تُمجّد حُضُورهم التّاريخيّ في الماضي، وبيْن قصصهم وأساطيرهم ونوادرهم وأيّامهمْ في التّخييل.

ولهذا السّبب، لا نستطيع تحديد ما يعُود إلى هذا الماضي وما ينبعث منه إلّا من خلال إسقاط «إيقاعاتٍ» خارجيّةٍ تُحوّل الزّمن إلى كمٍّ مُوجّه وقابلٍ للْعدّ: ستظلّ العبارةُ الشّهيرةُ: «حتى أنت يا بروتوس» خالدة ودالّة على «السّلوك الغادر»، ولكنّها ستظلّ أيضا مولّدة لكلّ قصص الغدْر في الذّاكرة الإنسانيّة. إن هذه العبارة أقوى من كل الأحداث التي روتها كتب التاريخ عن روما.

سعيد بنكراد ناقد وأكاديمي مغربي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلالها ا من خلال فی حالات الفرد من فی الأرض إلى ما ی ة التی ت من الط ب الس مات الس ردی الإنی ة ما یمکن ذلک کان الفرد م ات التی ق الأمر الط ب ع أو ما ی إن نا ن إن ها ت الذی ی إنها ت الز من ما کان ولکن ه على ما مکن أن فی الت ما وقع ود إلى الس رد زمنی ة ات الت بین ما

إقرأ أيضاً:

رئيس وزراء قطر: نتابع التحديات التي تعرض لها وقف إطلاق النار بغزة

الدوحة - صفا

قال رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إن ما حدث أمس في غزة مخيب للآمال، وعملنا على احتوائه وواشنطن ملتزمة بالاتفاق.

وأضاف رئيس وزراء قطر، اليوم الأربعاء، "نتابع التحديات التي تعرض لها وقف إطلاق النار بغزة أمس، ونركز على ضمان صمود اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة".

وتابع "تواصلنا بشكل مكثف مع الطرفين من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار في قطاع غزة".

وأردف "من حسن الحظ أن الطرفين يعترفان أن اتفاق وقف إطلاق النار بغزة يجب أن يصمد".

مقالات مشابهة

  • رئيس وزراء قطر: نتابع التحديات التي تعرض لها وقف إطلاق النار بغزة
  • الجوائز العربية… والثقافة التي تضيء أفق المستقبل
  • الأموال التي حوّلت من لبنان.. أين أصبحت؟
  • إسرائيل تُقرر توسيع المنطقة التي تسيطر عليها داخل قطاع غزة
  • الدقم.. المدينة التي تُصنع لتُعاش
  • رجال الله أيقونة البذل التي ما غابت عن سماء العِزة
  • إسرائيل: الجثة التي أعادتها حماس لا تعود لأي من المختطفين في غزة
  • شاهد.. أهم الأسباب التي منحت ريال مدريد الفوز على برشلونة
  • القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!